صناعة التَّفاهة في اليمن... الغثُّ السَّمين!

نشر في 12-11-2025
آخر تحديث 11-11-2025 | 18:44
 محمد علي ثامر

في بلدٍ يعيش واحدةً من أسوأ الأزمات الإنسانية في العالم، تُزهر التَّفاهة كما لو كانت آخر منتجٍ وطني لا يتأثَّر بالحرب ولا بانقطاع الرَّواتب، فمن شاشات التَّلفزيون إلى تطبيقات «التِّرند»، ومن منابر السياسة إلى آلاف المنشورات والتعليقات والإعجابات على أي محتوى مضحكٍ أو فاضح، لتتكرّس ثقافة تُكافئ الصخب وتُهمّش العُمق، حتى بات اليمني الذي يبحث عن مضمونٍ جادٍّ يُتَّهَم بالملل أو بقلّة روح الدُّعابة.

وبدأت هذه الصناعة مع بدايات الألفية الجديدة، ولكنها تطوَّرت ورُوِّجت عام 2011م، هذا العام الذي كسر حواجز القيم والأخلاق، والعادات والتَّقاليد التي يتميَّز بها هذا البلد، ثم تعمَّقت أكثر مع اندلاع الحرب الأهلية عام 2014م، فخَفَتَ صوتُ المثقفين، وتوارى المُفكِّرون والإعلاميون الجادُّون خلف ضجيجٍ إلكترونيٍّ عارم، وتحوَّل الفضاء العام إلى ميدانٍ مفتوحٍ لصُنَّاع المحتوى التَّافه، مقاطع ساخرة، وتحدِّيات تيك توك، ومشاجراتٍ علنيةٍ بين مشاهير لا يُقدّمون سوى المزيد من اللَّغو، ولعل آخرها التِّرند الذي تجاوز المليون مشاهدة في أقل من يوم على مقطعٍ كله قذحٌ وذمٌّ لشاعرٍ من «خولان» يُهاجم شيخاً قبلياً من ريمة، ولكن سرعان ما تلافاها الجانب القبلي الخولاني بتحكيم الطَّرف الآخر بعددٍ من رؤوس الثِّيران، وهذه الأخيرة هي الضحية الدائمة في اليمن.

في المقابل، يتم تهميش البرامج التنويرية والتطويرية أو التحقيقات الصحافية الجادَّة، لأنها لا تجلب مشاهدات، ولا تُحقِّق دخولاً وأرباحاً، فنحن نعيش مرحلة ضياع المعايير وانقلابها، حيث يُقاس النَّجاح بعدد المتابعين لا بقيمة الفكرة ولا بجدواها، فلم تعُد التَّفاهة مجرد تسلية، بل سلطة جديدة تتحكم في الذَّوق العام، فالمُنتج التَّافه يحصل على تمويلاتٍ وإعلانات، بينما الباحث الجادُّ لا يجد جهةً تنشر أبحاثه، كما أن المجال مفتوحٌ على مصراعيه للذي يرقص أمام الكاميرا ويُصبح مؤثّراً، ويُغلق بشدة أمام الذي يكتب نقداً حقيقياً، بل ويُوصم بالتَّحامل والحسد، الأمر الذي جعل صناعة التَّفاهة ليست مصادفةً، بل سياسة ممنهجة، تقف وراءها أيادٍ خفية تُشجِّع وتدعم، فحين تُغرق الناس بالسَّطحية، تفقدهم القدرة على التَّفكير في القضايا الكبرى، كالعدالة، والفساد، والحرية، وهكذا تُدار المجتمعات المُنهكة بسهولة وانقياد سريع.

ف «التِّرند» اليوم لا تصنعه الأحداث الكُبرى، بل المقالب، والمشادات بين صانعي المحتوى، كما أن مكافأة المشاهدات التي تُغري المراهقين وعديمي الأفكار والأذواق بتكرار السلوكيات السَّخيفة، وميدانها مواقع التواصل الاجتماعي التي أصبحت بحقٍ وحقيقة سوقها المفتوح، لتتربَّى الأجيال على وهم الشُّهرة السريعة والثراء الأسرع، وهكذا تُعاد صناعة التفاهة بشكلٍ يومي، في ظلِّ غياب الرَّقابة الأبوية بالمقام الأول، والرقابة الثقافية والإعلامية الحقيقية، في ظل انشغال البلد بأولويات الحرب ومخرجاتها، وهذا الأمر جعلها أيضاً مجالاً لتسويق التفاهة في ثوب الوطنية، فحتى الخطاب السياسي لم يَسْلَم من عدوى التَّفاهة، ففي كل مكانٍ تجدُّ من يتصدَّر المنصات بخطابٍ عاطفي أو فُكاهي، يُثير الجدل أكثر مما يُقنع، وتتحوَّل القضايا المصيرية إلى مهرجاناتٍ كلامية لها أولٌ وليس لها آخر، بل وتُدار المعارك الافتراضية باسم الوطن الضَّائع عليهم جميعاً، فحين تغيب السِّياسة الرشيدة، تحل محلها الكوميديا السوداء والرَّديئة.

لنصل إلى أنها لا تُدمِّر الذَّوق العام فحسب، بل تُضعف الوعي المجتمعي، فحين يتعوَّد النَّاس على استهلاك المحتوى الخفيف، يصبحون أقل حساسيةً تجاه المأساة التي يعيشونها، وأقل قدرةً على التمييز بين الجدِّ واللَّعب، فتُختزل القضايا الكبرى في «هاشتاغ»، وتُختصر المآسي في «منشور»، وتتحوّل الكارثة الوطنية إلى مادة للسُّخرية اليومية، وهنا فالخسارة مزدوجة والوجع كبيرٌ ومستمر.

ولعل المخرج المُقاوم لها، لا يتمثل بالمنع أو بتشديد الرقابة، بل بإحياء البديل، بإنتاج محتوياتٍ جادة وجذابةٍ في الوقت ذاته، وإعادة الاعتبار للثقافة والمعرفة، كما أن على فئة المبدعين تحمُّل المسؤولية الكبيرة في إعادة بناء الذَّائقة العامَّة للبلد برمّته.

* صحافي يمني

back to top