زهران ممداني... وعصر ما بعد الوصاية الإسرائيلية على القرار الأميركي

نشر في 10-11-2025
آخر تحديث 09-11-2025 | 20:07
 محمد الجارالله

لم يكن فوز الشاب المسلم زهران ممداني بمنصب عمدة نيويورك مجرد حدث محلي في الولايات المتحدة، بل زلزال سياسي ومعنوي أصاب إسرائيل في صميم بنيتها النفسية والسياسية.

فالدولة التي اعتادت أن تكون فوق النقد، وتنام على وسادة الدعم الأميركي غير المشروط، بدأت اليوم تستيقظ على عالمٍ يتغيّر من حولها، بسرعةٍ لا تستطيع مجاراتها.

انكسار الهيمنة الرمزية للوبي الصهيوني

منذ عقود، كان الطريق إلى أي منصب سياسي في أميركا يمرّ عبر بوابة اللوبي الصهيوني وجمعية أيباك. فكل من أراد الصعود، كان عليه أن يعلن الولاء لإسرائيل قبل أن يعلن برنامجه الانتخابي.

لكن ممداني - المسلم ذو الجذور الهندية - كسر هذه القاعدة الصارمة، فدخل إلى المشهد الأميركي من دون صكّ غفران سياسي، متحدّثاً بصراحة عن جرائم الاحتلال ودعم الشعب الفلسطيني، دون أن يُغلّف كلامه بالمجاملات.

هذا السلوك الجريء فتح الباب أمام جيل أميركي جديد يرى أن نقد إسرائيل لا يعني معاداة اليهود، وأن أخلاق السياسة يجب أن تكون أعلى من حسابات المال والإعلام.

دولة تخاف من الكلمة... لا من الصاروخ

حالة الذعر التي اجتاحت الأوساط السياسية والإعلامية في تل أبيب بعد فوز ممداني كشفت عن دولة هشة من الداخل، تخاف من الكلمة أكثر مما تخاف من الصاروخ.

فحين تصف إسرائيل فوز عمدة مدينة بأنه «خطر وجودي»، فإنها بذلك تعترف ضمنياً بأنها تعيش على هشاشة الصورة لا على قوة الحقيقة.

ومن هنا يصدق عليها المثل العربي القديم: من ضرب بسيف غيره قد ذلّ، فإسرائيل التي ضُربت بسيف الدعم الأميركي لعقود، بدأت تشعر أن هذا السيف يُغمد ببطء.

تآكل المركزية الإسرائيلية في النظام الدولي

هذا القلق ليس وهماً، بل انعكاس لتحولٍ أكبر يشير له المحللون السياسيون، فمركزية إسرائيل في المنظومة الدولية بدأت تتراجع، ومعها يتراجع الدعم الغربي السياسي والشعبي الذي طالما منحها شرعية البقاء.

في أوروبا وأميركا، تصاعدت الأصوات التي تسأل عن جدوى مليارات الدولارات التي تُمنح سنوياً لدولةٍ تمارس سياسات إبادة واحتلال، بينما تتراجع الخدمات في مجتمعاتها نفسها.

أما القوى الصاعدة مثل الصين وروسيا، فقد باتت ترى أن التحالف مع «أعداء إسرائيل» أكثر جدوى لمصالحها الاستراتيجية، في عالمٍ يتجه نحو التعددية القطبية.

مأزق الولايات المتحدة... الداعم المرهق

حتى واشنطن - التي كانت تُعتبر العمود الفقري لبقاء إسرائيل - أصبحت في مأزق أخلاقي وسياسي.

ففي الداخل الأميركي، تتراجع شعبية إسرائيل بين الشباب واليسار والديموقراطيين، ويزداد عدد من يرون أن ما يجري في غزة إبادة جماعية لا دفاع عن النفس.

أما في «الكونغرس» فقد أصبح ذكر إسرائيل عبئاً انتخابياً أكثر من كونه ميزة. وقد عبّر الرئيس ترامب نفسه عن استغرابه من هذا التحول، حين قال إن اسم إسرائيل بات يخسر الأصوات بدلاً من أن يكسبها.

ولذلك، يتوقع المحللون أن يتراجع الدعم الأميركي تدريجياً على المديين المتوسط والبعيد، مما سيجعل إسرائيل تقف وجهاً لوجه أمام مصيرها، من دون المظلة التي اعتادت الاحتماء بها.

الوهم القديم... «نحن أبناء الله وأحباؤه»

في خضم هذه التحولات، تعيد إسرائيل إنتاج خطابٍ استعلائي قديم، يذكّرنا بقوله تعالى:

«وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ» (سورة المائدة - 18).

ذلك الشعور بالاصطفاء والتفوق الإلهي ما زال يوجّه سلوكها، حتى في السياسة وقد باح به نتنياهو.

تتعامل مع العالم بمنطق الاستحقاق، لا بمنطق الشراكة، وترى أن نقدها عداءٌ لله، وأن طاعتها واجبٌ أخلاقي على الآخرين.

لكن التاريخ لا يرحم الأمم التي تبالغ في استعلائها، فحين يذوب الغطاء الأخلاقي، لا يبقى من الصورة إلا التناقض.

صورة إسرائيل المتداعية في عيون الغرب

لم تعد إسرائيل قادرة على ترويج نفسها كدولة ديموقراطية ليبرالية.

فالمجازر التي تُنقل على الهواء مباشرة هدمت رواية «الديموقراطية المزدهرة» التي طالما تباهت بها.

حملات المقاطعة الأكاديمية تجاوزت عشرة آلاف فعالية، والمقاطعات الرياضية تتسع يوماً بعد يوم.

بل إن 60 بالمئة من يهود بريطانيا يخشون اليوم الإفصاح عن هوياتهم، بعدما ارتبطت صورتهم - ظلماً وعدلاً - بالممارسات الإسرائيلية.

لقد فقدت إسرائيل قدرتها على استخدام ورقة الضحية أو الهولوكوست كدرعٍ أخلاقية، بعدما تحولت في نظر العالم إلى طرفٍ معتدٍ يمارس الإبادة باسم البقاء.

تشققات الداخل الإسرائيلي

أما في الداخل، فالصورة لا تقل اضطراباً.

إسرائيل اليوم ليست مجتمعاً موحداً، بل أربع «طوائف» متناحرة، كما وصفها أحد رؤسائها السابقين.

الانقسام السياسي بلغ ذروته، والثقة بين الجيش والحكومة في أدنى مستوياتها.

حتى نتنياهو نفسه بات يتحدث بلغة «مختلفة»، داعياً إلى الاعتماد على الذات، بعد أن تهاوى الدعم الدولي.

إنها دولة تعيش أزمة وجود لا أزمة حدود.

من نيويورك إلى غزة... عودة الفطرة الإنسانية

من نيويورك إلى غزة، خيطٌ واحد يربط الأحداث: عودة الفطرة الإنسانية إلى الواجهة.

الناس في العالم، وفي أميركا تحديداً، بدأوا يميزون بين الدين والقومية، بين اليهودية كإيمانٍ روحي وبين الصهيونية كمشروعٍ سياسي عدواني.

ومن رحم هذا الوعي الجديد، وُلدت أصوات مثل زهران ممداني، تحمل ضمير الإنسان قبل أي انتماء.

خاتمة

لقد كان فوز عمدة نيويورك المسلم شرارة رمزية، لكنه يعكس تحولاً عالمياً عميقاً في الوعي تجاه إسرائيل ومشروعها.

العالم يتغيّر، وموازين القوة الأخلاقية تتبدّل، والغرب نفسه بدأ يعيد النظر في أساطيره القديمة.

وحين يبدأ الأميركي العادي برؤية الحقيقة بعينٍ إنسانية لا بعين «فوكس نيوز» أو بيانات البيت الأبيض، عندها فقط ستدرك إسرائيل أن زمن الاستعلاء قد انتهى... وأن زمن الحساب قد بدأ.

ولله درّ السنوار حين قال: «سنجعل من إسرائيل دولة منبوذة عالمياً أو نحقق الدولة الفلسطينية».. وهذا صدى صرخته نراه أمامنا.

* وزير الصحة الأسبق

back to top