مَن يزرع لغيره يحصد لنفسه
استوقفتني حكاية قصيرة، تدفع برمزيتها وعمقها إلى إعادة النظر في مفاهيم النجاح، والتميز، والأنانية الفردية التي تتسلل - عن قصد أو غير قصد - إلى أساليب تفكيرنا وسلوكنا اليومي.
فقد روي أن فلاحاً في قرية نائية كان يحصد الجوائز سنوياً نتيجة إنتاجه الوفير من الذرة العالية الجودة.
وحين سأله أحدهم عن سر تفوقه الدائم، أجاب بهدوء: «أشتري البذور الممتازة، وأوزع منها على كل جيراني، ثم أزرع حقلي منها، وأقوم بكل ما ينبغي من عناية وري وتشذيب».
فسأله الرجل بدهشة: «لكن جيرانك ينافسونك، فلمَ تمنحهم بذورك الجيدة؟!» فكان الرد أبلغ من القصة ذاتها، إذ حسم الأمر بالقول إن «الرياح لا تعرف حدود الحقول، وإن زرع جيراني بذوراً رديئة، فسينتقل لقاحها إلى أرضي ويفسد زرعي».
****
في الوقت الذي تتسابق به المجتمعات الحضارية على بناء الإنسان وتطوير المكان معاً، ما زالت المجتمعات المتأخرة ثقافياً وحضارياً مقتنعة بأن النجاح هو مسألة فردية، لا ترتبط بروح العمل الجماعي ولا بمتطلبات الاستدامة، فالكل يدخل بمنافسة محمومة ومسمومة مع الكل، والجميع يتجاهل حقيقة أن النجاح الفردي وسط بيئة فاشلة، لن يصمد طويلاً.
فما نفع أن نتقن العمل في مؤسسة لا تعير بالاً للكفاءة؟ وما جدوى التفوق العلمي في بيئة يحكمها الفشل ويعاديها الطموح؟ وما قيمة القصر الجميل وسط غابة من المنازل العشوائية التي تفتقر إلى جمال المظهر الخارجي والخدمات العامة والطرق المعبّدة؟ ليس هذا تنظيراً، بل حقيقة أثبتتها التجارب في ميادين الاقتصاد والتعليم والإدارة، فالشركات الناجحة لا تقوم على فرد متفوق، بل على فريق متناغم.
والأنظمة التعليمية المتقدمة لا تركّز جهودها على المتفوقين وحدهم، بل تسعى إلى رفع المستوى العام للطلاب.
أما المجتمعات الساعية إلى التحول الحضاري فهي لا تحتفي بالنخبة فقط، بل تعمل على تمكين العامة وحمايتهم من الانحراف والانزلاق.
من هذا المنطلق، يصبح واجب كل قيادي ومسؤول أن يؤمن بأن نجاحه الحقيقي وتقدمه الوظيفي لا يكتملان إلا حين يصبح سبباً في صعود غيره ممن يشكلون حوله دائرة جهد وتميّز وعطاء.
فنقل المعرفة، وتمكين الزملاء، وفتح الفرص أمام المرؤوسين، ليس مجرد تكرّم شخصي، بل مسؤولية بنيوية لصيانة بيئة النجاح التشاركي.
ليس المطلوب أن يتنكّر الفرد لتفوقه العلمي، ولا أن يتجاهل تميّزه العملي، وليس المقصود أيضاً أن يتحمل المرء نتيجة كسل الآخرين، أو أن يتعايش قسراً مع تخلفهم المتجذر في الطبائع والتكوين، ولكن الواجب ألا يكون التفوق على حساب الآخرين، والمندوب أن يشكّل كل نجاح شبكة أمان وقاعدة دعم للمحيط الفاشل، وذلك ليس من منطلق نظري أو لاعتبارات مثالية، بل خشية أن يذوب التميّز الفردي في بيئة يعوقها الكسل ويخنقها الجمود.
*****
من يزرع لغيره، إنما يحصد لنفسه... ليست شعاراً جذاباً صالحاً للترديد، بل قانوناً جوهرياً من قوانين الحياة.
فالحقل الذي نهمل أطرافه، لا يثمر وسطه، والأفكار الجيدة لا تنمو في الفراغ، بل تحتاج إلى مجتمع يدرك قيمتها، ويصونها، ويهيئ لها بيئةً حاضنة تؤتي أُكلها على المستوى الجماعي.
* كاتب ومستشار قانوني