بعد انسحاب «السوربون» هل نعيد تعريف معنى التصنيف الجامعي؟

نشر في 10-11-2025
آخر تحديث 09-11-2025 | 21:33
 د. حمد محمد علي ياسين

في مقالٍ سابق لي نُشر في جريدة الجريدة، دعوت إلى التروي والحذر في التعامل مع التصنيفات العالمية للجامعات.

وأكدتُ أن الجامعة ليست أرقاماً في جداول ولا مراكز في قوائم، بل منظومة علمية وإنسانية تؤدي رسالة وطنية قبل كل شيء.

يومها بدا هذا الطرح للبعض مثالياً، لكن ما حدث أخيراً من انسحاب جامعة السوربون - إحدى أعرق جامعات العالم - من تصنيف Times Higher Education، وقبلها كليات القانون في جامعتي ييل وهارفارد، أعاد النقاش إلى الواجهة، وأثبت أن الاعتراض لم يكن رفضاً للتقييم بحد ذاته، بل رفضاً لطريقةٍ تختزل المعنى الحقيقي للجامعة.

جامعة السوربون، التي تمثل رمز الفكر الفرنسي الحر منذ القرن الثالث عشر، بررت قرارها بأن التصنيفات العالمية أصبحت تعمل بمنهجيات غامضة لا يمكن التحقق منها.

وصفتها إدارة الجامعة بأنها «صناديق سوداء» لا تُفصح عن تفاصيلها، ولا تسمح للجامعات بفهم كيفية احتساب النقاط أو وزن المؤشرات.

هذه الملاحظة تكشف أولى مشكلات التصنيفات: غياب الشفافية.

فكيف يمكن قياس جودة مؤسسة أكاديمية بمعايير لا يعرفها حتى أهل التخصص؟ السبب الثاني الذي ذكرته السوربون هو التحيّز اللغوي والكمّي، فالتصنيفات تعتمد أساساً على عدد الأوراق المنشورة بالإنكليزية، وتقيس الأثر العلمي بعدد الاستشهادات في قواعد بيانات دولية، وكأن الفكر المنتج بلغات أخرى لا قيمة له.

هذا النهج يكرّس رؤية ضيقة للعلم، ويهمّش الثقافات غير الناطقة بالإنكليزية.

ومن هنا يتشابه وضع جامعة الكويت، فالكثير من إنتاجها العلمي والاجتماعي يصدر بالعربية أو يوجَّه إلى المجتمع المحلي، بينما تعتمد التصنيفات على معايير لا ترى هذا الجهد.

وهكذا تظهر الجامعة في مراتب متدنية لا تعكس واقعها أو رسالتها الوطنية، أما النقطة الثالثة فهي «ضيق زاوية الرؤية»، فالتصنيفات تركّز على الكمّ في البحث العلمي والدخل الصناعي، لكنها تتجاهل الإسهام في السياسات العامة والتنمية المجتمعية وبناء الهوية الوطنية، وهي معايير يصعب قياسها، لكنها تمثل جوهر نجاح الجامعة، فجامعة الكويت مثلا أسهمت لعقود في إعداد الكوادر الوطنية وبناء الفكر العام، وهي أدوار لا تظهر في أي مؤشر دولي.

وأشارت «السوربون» أيضاً إلى خطر «تقديس الترتيب»، فعندما تتحول الأرقام إلى غاية بحد ذاتها، تُوجَّه السياسات الأكاديمية نحو رفع الموقع في التصنيف، بدل رفع جودة التعليم والبحث.

تُكافأ الكمية على حساب النوعية، وتُدار برامج بحثية شكلية لا تضيف إلى البيئة العلمية.

هذه الظاهرة بدأت تمتد إلى بعض جامعات المنطقة، حيث تُمارس أحياناً أساليب لزيادة الإنتاج الورقي دون أثر حقيقي.

وهنا يُطرح السؤال: هل الترتيب هدفٌ أم وسيلة؟ لهذه الأسباب اختارت السوربون الانسحاب، لا رفضا للتقييم، بل رفضا للقياس الخاطئ، واستعادةً ل «سيادتها على بياناتها».

أرادت أن تُعرّف نفسها بمعاييرها الخاصة المبنية على رسالتها وأولوياتها المجتمعية.

ومن وجهة نظري، فإن هذه الخطوة ليست تراجعا، بل تحررا من قيدٍ كان يفرض على الجامعات أن تشبه غيرها، بدل أن تكون نفسها.

جامعاتنا تحتاج لتقييم يستمد روحه من بيئتنا وأهدافنا الوطنية، لا من جداول تُصاغ في سياقات مختلفة، فالمطلوب ليس رفض التقييم، بل إعادة تعريفه بما يعكس حقيقة الجامعة ورسالتها في خدمة مجتمعها، لا بما تمليه مؤشراتٌ لا ترى سوى الأرقام وتغفل الجوهر.

back to top