غزة تحرر أميركا!
ينتصر زهران ممداني كعمدة لنيويورك فيضج العالم ولا تتوقف الاحتفالات والتحليلات أيضاً. ينغمس الكثيرون في الانتصار الكبير لكونه مسلماً، وآخرون لأنه من أصول آسيوية، وغيرهم لأنه مهاجر ولم ينل الجنسية الأميركية إلا منذ بضع سنين. أما العرب فقد أفرحتهم زوجته السورية وراحوا «ينبشون» في تاريخها من أول ولادتها حتى دراستها وكيف التقت زهران وتزوجا.
وقد عكست كل هذه التقارير مدى التحول الذي حدث للمجتمعات الأميركية، وهي بالفعل مجتمعات وليست مجتمعاً واحداً، خاصة منها جيل الشباب، وفي نيويورك تلك المدينة التي فتحت أذرعها للرياح المتجددة القادمة من زوايا الكون، وكانت ملجأ وسكناً لليبراليين والديموقراطيين واليساريين، ولا يحتاج المرء إلى كثير من البحث ليكتشف ذلك، فمجرد المشي في شوارعها وزيارة قاعات الفنون والمتاحف وحفلات الجاز، ذاك الفن المعجون بالتمرد، تكشف عن تلك المدينة المختلفة بتنوعها.
إلا أن فوز ممداني - كما قال بعض المحللين الفرحين جداً - جاء انتصاراً لطرح الأسئلة التي كانت حتى قبل سنين بسيطة غير مسموح بالتفكير فيها بالولايات المتحدة. أما هو فلم يكتفِ بالسؤال، بل وضع تصوراً للإجابات المنطقية، وقال ما يقوله الكثيرون ربما في الجلسات الخاصة والمقاهي والقاعات، حيث يشتد صخب السؤال. تحدث عن العدالة الاجتماعية تلك التي وضعت في براويز وقيل عنها إنها مجرد أفكار لدى بعض الرومانسيين من الباحثين أو المثاليين منهم. والحق في الصحة والسكن والتعليم للجميع هي الأخرى كانت ولا تزال هم الإنسان الأول في كل مجتمع، وهي ما دمرته الرأسمالية المتوحشة هناك، وما لبثت وانتشرت كفكر «عملي» لبناء الدول والمجتمعات ورخائها، فبلي العالم كله بالمثال الأميركي المغمس بتدمير البشر مثله مثل الطاعون أو الكوليرا قديماً!
ولكن يبقى السؤال المهم أو الأكثر إلحاحا وهو «لم الآن؟» لما ينتصر ذاك المسلم المهاجر من أصول آسيوية الآن فيما بقيت نيويورك منذ سنين طويلة حكراً على رجال المال أو الممولين من قبلهم، وكثير من الصهاينة والمنظمات الداعمة لهم طبعاً. ربما هي غزة التي لم تعد بقعة جغرافية صغيرة تقاوم لسنتين ولا تتوقف، ربما هي غزة التي شكلت انكساراً في وعي العالم، فما حدث في غزة لم يكشف وحشية آلة الحرب فقط، بل عرّى منظومة كاملة تحكم الكوكب: تحالف بين حكومات، وشركات سلاح، ومصارف، وإعلام، يكدّس الأرباح ويترك البشر عُزّلاً أمام الجوع والتشرّد والمرض والعوز الدائم.
كثرة تناضل يومياً من أجل السكن والغذاء والدواء وقلة تنعم في خيرات العالم كله من مناجم الذهب في السودان وكل إفريقيا إلى النفط في الخليج والغاز وغيرها. غزة رفعت الغطاء عن الجميع وعرتهم كلهم وأولهم النظام العنصري وحرب إبادته وكذلك النظام الاقتصادي والسياسي العالمي الذي تهيمن عليه قلة، وهي نفسها كما حذّر كثير من الباحثين مثل سي رايت ميلز وإدوارد هيرمان ونعوم تشومسكي، الذين قالوا إن شركات الأسلحة تدخل البيوت عن طريق صناعتها الأخرى، ومنها الغسالة ومحطات التلفزة والإعلام.
وهم من كشفوا منذ سنين أن «جنرال إلكتريك»، التي تحملها ثلاجتك بالمنزل، هي نفسها تصنع القنابل والأسلحة لتقتل جارك وكثيراً من البشر في مدن بعيدة. كشفت غزة عن وجه الصهيونية وأرسلت بالأسئلة حتى وصلت إلى نيويورك المدينة التي تدار منها كثير من الشبكات المالية والإعلامية، وقيل عنها إنها معقل الصهاينة المتشددين المناصرين لدولة الاحتلال ونموذج للاقتصاد الحر. فجاء هذا الفوز ليكشف أنها هي أيضاً التي كشفت عن تصدع الثقة في النموذج النيوليبرالي الذي يمول الحروب في دول بعيدة ويفقر الناس في أميركا.
من غزة سافرت الأسئلة الصعبة إلى نيويورك وغيرها، وهناك وقف كثيرون يرددون كيف يمكن لدولة تنفق المليارات لتسليح حليف يحاصر مليوني فلسطيني أن تعجز عن تأمين سقف وعلاج لمواطنيها؟ كيف يمكن لشركات تحقق أرباحا خيالية من صفقات الأسلحة أن تقدم كرموز نجاح بينما عائلات بأكملها تنام على أرصفة الجادة الخامسة الفاخرة؟ غزة حررت اللغة أيضاً وصارت كلمات مثل حرية وديموقراطية وعدالة اجتماعية ليست حكراً على من يصفونهم ب «الثورجية الحالمين أو الحمقى»، بل هي منحت سكان الكون الشجاعة لتسمية الأشياء بأسمائها، حرب إبادة، اقتصاد جشع، نخب تعقد الصفقات على جثث الفقراء وفتحت أبواب الكون أمام الجيل زد، ليفكر أنه بالإمكان أن يكون هناك عالم أكثر نقاء وكرامة وحرية ومساواة... ليست غزة بطلة رومانسية، هي جرح مفتوح كشف كل شيء. ومن رحم هذا الجرح خرج سؤال واحد بسيط يهزم كل دعايات القوة: إذا كان العالم قادراً على تمويل الموت بهذا السخاء، فلماذا يعجز عن تمويل العدالة؟
* يُنَشر بالتزامن مع «الشروق» المصرية