بخيال وإرادة

نشر في 09-11-2025
آخر تحديث 08-11-2025 | 20:05
 حسن العيسى

من 1960 حتى 1970 استطاع وينسيميوس، الاقتصادي الهولندي، بخبراته ونصائحه لحكومة لي كوان يو في سنغافورة أن يخفض البطالة إلى أقل من 30 في المئة، وبعدها بخمس سنوات استطاعت الحكومة السنغافورية بلوغ العمالة الكاملة، بمعنى انعدام البطالة تماماً، هل كان ساحراً؟ وهل كانت مشورته الاقتصادية ستخدم الدولة المدينة (سنغافورة)، لو لم يعملها رجل سياسي حصيف مثل لي كوان هو (يو)؟

المستشار ليس ذلك المنتفخ القابع خلف المكتب الإداري وهو «مرتز» كوجيهٍ كبير من الوجهاء «الفالصو»، يقبض الراتب الوفير، ويحرص على تألق شخصيته الباهتة في الإعلام. لا أبداً، المستشار الاقتصادي أو الإداري أو القانوني يقدِّم خدماته من أجل الدولة، وقبلها المُواطِن الإنسان ورفاهيته وكرامته. المُواطِن هو حجر الأساس لكل دولة.

عرضت جريدة الجريدة كتاب «ألبرت وينسيميوس وسنغافورة– هنا سوف يحدث» لثلاثة باحثين، وقدَّمت عرضاً سريعاً لمحتواه. مُؤلَّف ضخم يتجاوز الألف صفحة بسعرٍ مرتفع يبلغ 180 دولاراً للنسخة المجلدة، و150 نسخة كندل. مجهود كبير بذله الباحثون لعرض قصة حياة وينسيميوس من هولندا، التي خرجت مدمرة بعد الحرب الثانية، لكنها وجدت في شعبها، وفي أشخاص مثل وينسيميوس ما يعينها للنهوض من جديد. حياته وكفاحه في بلده خلقا شخصيته الفذة. اتُهم في عمله كمستشارٍ اقتصادي للحكومة الهولندية بأنه من البارونات اللصوص. لم يفت هذا في عضده، وواصل عمله كي تُصبح الدولة مركزاً لجذب الاستثمارات الأجنبية من ناحية، ومن ناحية أخرى عمل على أن تكون هولندا مصدرة للصناعات، وليست فقط بلداً زراعياً.

حين انتقل كمستشار للأمم المتحدة في سنغافورة، ثم كمستشار يعمل لهذه الدولة، بقيادة لي كوان يو، لم يختلف نهجه، وإن كانت الصعوبة أكبر في ذلك البلد الذي قدم إليه. نصح الحكومة السنغافورية بالانفتاح على العالم، ورفض سياسة الانعزال والانغلاق. أظهر قُدرات براغماتية عظيمة في تأسيس المؤسسات الاقتصادية. كانت هناك ثلاث قوميات عرقية، المالاوية، والصينية، والهندية، تم تجاوز خلافاتها حين قامت الوحدة الوطنية على رفاهية الإنسان السنغافوري، سمَّاها «تراكم الرفاهية»، كيف تحقق ذلك؟ أولاً: بالتخطيط الاستراتيجي، وفق خطة لا تُوضع بالأدراج وتُنسى، وثانياً: بالتركيز على التعليم، بمعنى الاستثمار في الإنسان، وهذه هي البداية ونقطة الانطلاق... الدولة أضحت ملاذاً للمستثمرين، تنهال عليها رؤوس الأموال من الدول الصناعية المتقدمة والثرية، بلد كان فقيراً بائساً لا توجد فيه ثروات طبيعية، وفي خلال ثلاثة عقود تحوَّل إلى دولة صناعية متقدِّمة بدخلٍ فردي يُقارب مثيلاتها في الدول الأوروبية، ويتجاوزه أحياناً.

كان هناك فكر وخيال خصب اجتمع بإرادة حديدية حاكمة وثقافة عالية، ممثلة بشخص لي كوان يو، وتضافر لخلق الفرصة، كي تقفز تلك الدولة إلى مصاف النجوم.

back to top