بالمختصر: حين تبدأ الجريمة من فكرة... الضمير بين الخاطر والفعل

نشر في 09-11-2025
آخر تحديث 08-11-2025 | 21:27
 د. فهد إبراهيم الدوسري

وقفة مع قوله تعالى: «وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ»

المشهد الأول: الخاطر الأول كانت الجريمة الأولى فكرةً قبل أن تكون فعلًا، همسٌ في النفس لم يسمعه أحد، لكنه كان كافيًا ليقلب ميزان الأرض.

قال تعالى: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ﴾. لم يكن قابيل سفّاكًا يومَ وُلد، بل كان شقيقًا يرى ظلّ أخيه يعلو عليه، فاستقرّ في صدره خاطرُ الغيرة، والغيرةُ إن سكنت بلا ضميرٍ تصبح سُمًّا قاتلًا. ثم قال في نفسه: ﴿لَأَقْتُلَنَّكَ﴾. جملة قصيرة، لكنها إعلان ولادة أول نيةٍ إجرامية في تاريخ الإنسان، وهنا يظهر المعنى القرآني البديع: ﴿فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ﴾، أي أن النفس لم تكن عدوًا، بل أداةً طيّعة حين غاب عنها الضمير. وفي المشهد الثاني: حين يغيب الرادع الداخلي في قصة يوسف عليه السلام، كانت الجريمة فكرةً أيضًا قبل أن تكون مؤامرة. اجتمع الإخوة على خاطرٍ واحد: ﴿اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا﴾. إنهم لم يحملوا السكاكين بعد، لكنهم حملوا ما هو أخطر، نية القتل المغلّفة بالغيرة، والمبرّرة باسم المصلحة العائلية. تلك هي لحظة سقوط الضمير، حين يُبرّر القلب لنفسه أن الفعل «مبرّر»، وأن المصلحة تبرّر الخطيئة. 

المشهد الثالث: الفكرة حين تُروى ولا تُقاوم بين (لأقتلنك) و(اقتلوا يوسف) نرى كيف تسري الجريمة كعدوى في النفس البشرية. الخاطر يولد من مقارنة، يتغذى على الغيرة، ويكبر بالصمت، ثم يُثمر جريمة. قال ابن القيم: «الخواطر بذر الإرادات، والإرادات بذر الأعمال، والأعمال بذر العادات». فإذا لم يُقم الضمير سوراً حول الفكرة، صارت الفكرةُ جسراً إلى الفعل، وصار الفعلُ تاريخاً لا يُمحى.

المشهد الرابع: بين القاتل والضمير لم يقتل قابيل أخاه وحده، بل قتل ضميره أولا. فكل جريمةٍ تُرتكب، تسبقها جريمةٌ في الداخل، قتلُ الصوت الذي كان يقول «اتقِ الله». ولذلك قالوا: «الضمير هو الحارس الوحيد الذي لا ينام، فإذا نام، صار الإنسان غابة بلا حدود». 

المشهد الخامس: حين يتكلم الشاهد الصامت لو نطق التراب الذي شرب دم هابيل، لقال: لم أُلوَّن بالدم مصادفة، بل بخاطرٍ لم يُقاوم، وبضميرٍ خُدّر. ولو نطق الجبّ الذي أُلقي فيه يوسف، لقال: لم يكن عمقه أعمق من غيظ إخوته، ولم تكن ظلمته أشد من ظلمة صدورهم. في الحالتين، الجريمة بدأت حين غاب الضمير قبل أن تُرفع اليد. 

الخاتمة: ما بين قابيل وإخوة يوسف، هناك مسافة ألف عامٍ من التاريخ، لكنها اللحظة ذاتها في النفس الإنسانية: لحظةُ ضعف الضمير أمام الخاطر. فحين يضعف الضمير، تتحول الفكرة إلى نيّة، والنية إلى فعل، والفعل إلى جريمة، والجريمة إلى تاريخٍ يروي أن أخطر ما في الإنسان... ليس سلاحه، بل فكرته.

back to top