اليمن... البلد المظلوم من أبنائه!
اليمن بلدٌ يحمل في جعبته تاريخاً عريقاً وحضارة غنية، ولكنه اليوم يعيش واحدةً من أعظم المآسي في العصر الحديث، حروباً مُتعدِّدة، وانقسامات سياسية، وانهياراً اقتصادياً، فلم يتركوا مساحةً للسَّلام أو للأمن أو حتى للأمل، والمفارقة المؤلمة أن أكبر الظُّلم يأتي أحياناً وربما دائماً من أبنائه أنفسهم، فمنذ اندلاع الحرب الأهلية عام 2014م، انقلبت البنية الاجتماعية والسِّياسية رأساً على عقب، فاليمنيون الذين يُفترض أن يكونوا شُركاء في حماية وطنهم، أصبحوا أطرافاً في نزاعاتٍ مريرة تخنق الأبناء، وتُحاصر الحُريات، وتُفاقم الفقر، ولعل الضَّربة الأكبر ليست من الحرب وحدها، بل من أولئك الذين يُفترض أن يُدافعوا عن النَّاس، ويضعون المصالح الشَّخصية والحزبية والطَّائفية فوق مصلحة الوطن الجامع، الأمر الذي خلق صِراعاً داخلياً طال أمده، واستفحل شره، ونتج عنه ضحايا كُثر أصبحت وقوداً بشرياً لتلك الحرب وأرقاماً خارج حسابات تلك المصالح.
ففي كل يومٍ يواجه اليمنيون الانقسام بين سلطةٍ فرضت نفسها بالقوة والحديد والنَّار، وأخرى تُحكم بالولاءات القبلية والحزبية أو بالأطماع والسِّياسات الخارجية، أي ما بين أكثر من (10) جماعاتٍ مُسلَّحةٍ وسياسيةٍ تُسيطر على مناطق واسعة وتتحكم بها، ليبقى البلد أو المدينة أو القرية رهينةً للقرار الشَّخصي أو الفئوي بدلاً من تطبيق الدُّستور والقانون.
ولم يتوقف الأمر عند هذا الحدِّ، بل إن هذا البلد المكلوم يُعاني أيضاً من انهيار الخدمات الأساسية كالغذاء والدَّواء والماء والكهرباء، فالصِّحة والتَّعليم في مستوياتٍ حرجة، حيث يذهب الطِّفل إلى المدرسة مُحمَّلاً بالجوع، وتبحث المرأة عن دواءٍ لأطفالها، ويعيش الرِّجال في صراعٍ يوميٍّ ضد الفقر والمرض، وهما لا يقتلان الجسد فقط، بل يُدمران الطُّموح والإبداع لدى عامّة النَّاس، ويُغرقان المستقبل في مستوى كبير من الإحباط واليأس، ممَّا جعل البلد في أتونٍ مأساةٍ اقتصاديةٍ وإنسانية إلى جانب كارثته المستمرة المُتمثلة بالصِّراع السِّياسي.
وما يزيد الطِّين بلّة أن كثيراً من الجرائم الشَّنيعة المُرتكبة ضد المدنيين، بما في ذلك قتل النِّساء والأطفال، تبقى بلا عقاب في كثيرٍ من المناطق، فالقادة العسكريون والعصابات المُسلَّحة قد يكونون سبب المعاناة، ومع ذلك يستمر الإفلات من المُساءلة كثقافةٍ تساهم في ترسيخ العُنف والفساد، فحين يُفلت المُذنب، ويصبح القتل والنَّهب والسَّلب والنِّفاق واقعاً يومياً، يصبح الظُّلم نسيجاً اجتماعياً يُورَّث عبر الأجيال.
وفي ظلِّ هذا الواقع، نرى بصيص أملٍ أو نجد مشاهد تضحياتٍ رائعة من بعض اليمنيين، أطباء يُداوون مجاناً، ومُتطوعون يوزِّعون الغذاء، وناشطون يكتبون ويُصورون الأحداث لتصل الحقيقة إلى العالم، ولكن بالمقابل، هناك من يستغل الحرب للثَّراء السَّريع، أو لممارسة السُّلطة بالقوة، أو لتحقيق مصالح ضيقة، هذه الثُّنائية بين التَّضحية والخيانة تجعل البلد مُضطرباً بصورةٍ دائمة، والمواطن بين أملٍ ضئيلٍ ويأسٍ مُتنامٍ، وللخلاص من كل ذلك يحتاج اليمن أولاً إلى وعي داخلي، وإلى إدراكٍ بأن الضَّرر الأكبر يأتي من الانقسامات الدَّاخلية، والتَّباينات السِّياسية، وأن وحدته ليست شِعاراً فقط، بل ضرورةً للبقاء والدَّيمومة، فاليمن المظلوم ليس مجرد حالةٍ سياسيةٍ أو اقتصادية، بل هو جرحٌ إنسانيٌّ عميق، فمن أبنائه يأتي الألم، ومنهم أيضاً يُمكن أن ينبثق الأمل، إذا تجاوزنا الأنانية والطَّائفية والحسابات الضَّيقة، وركَّزنا على العدالة والمساواة والكرامة.. واليمنيون وحدهم قادرون على تحويل هذا الظُّلم إلى قصة نهوضٍ حقيقية، ولكن ذلك يتطلَّب الشَّجاعة والصِّدق مع الذَّات، ويحتاج إلى نوايا صادقة من الجميع من أجل إعادة بناء حاضره واستشراف مستقبله.
*صحافي يمني