ثقافة الطابور
لا أعرف لم تذكرت ما كنا نسميه «الفرصة» أيام المرحلة الابتدائية والمتوسطة، والوضع السائد حينذاك عندما كنا نذهب ونناضل في «المقصف» لشراء فطيرة أو قطعة حلوى أو عصير، واستذكرت الفوضى العارمة، وأتساءل لماذا لم تكن ثقافة الطابور سائدة آنذاك، فلطالما تمنيت أن تكون هناك طوابير، إذ كانت ستتيح لنا فرصة أن نأكل وجبة خلال فترة الاستراحة القصيرة في يوم دراسي طويل.
تذكرت الماضي وأنا أتأمل طول طوابير الانتظار للدخول لأحد محلات التجزئة الشهيرة، والتي قد تصل إلى ساعات، وجعلني ذلك أيضاً أستحضر طوابير أخرى محلياً وعالمياً، فقد شهدت في الكثير من العواصم كيف يصطف الجمهور بطوابير طويلة، لأجد في النهاية أن الهدف شراء حبات من البطاطس المقلية أو قطع من الحلوى أو قهوة أو غيرها... هل السبب هو قوة تأثير وسائل التواصل الاجتماعي ومشاهيرها؟ أجزم أن جزءاً كبيراً من ثقافة الوقوف بطوابير لتذوق منتج لها علاقة مباشرة بتأثير وسائل التواصل وإعلانات ما يطلق عليهم المؤثرون بالإعلان عن منتج أياً كان، فهل السبب الشغف بالتجربة أم التقليد أم ثقافة اللحاق بالركب وعدم التخلف عما هو «ترند»؟ وهل تلك التجربة مقتصرة على فئة أو عمر معين؟
لوحظ في السنوات الأخيرة كيف انتقلت لنا ثقافة الطوابير للحصول على منتج حصري أو تعاون محدود بين أكثر من ماركة تجارية، وأعتقد أن التسويق من خلال الإعلانات التجارية في وسائل التواصل له الأثر الأكبر في أن تنتقل الثقافة الآسيوية أو الأوروبية أو غيرها إلى منطقتنا. وأنا أتأمل طول تلك الطوابير على بعض محلات التجزئة الشهيرة أتساءل هل تحمل الوقوف لفترات طويلة متعبة فعلا له مردود نفسي بتحقيق هدف معين؟ هل الانتظار الطويل له علاقة بأن الدخول لبعض المحلات يتطلب السفر، وبالتالي يرتبط بذكريات معينة؟ أم هل له علاقة بالأسعار المتاحة للجميع؟ ولو أنني أجزم بأن هناك الكثير من المحلات التى تحوي أسعاراً مناسبة ومشابهة في الجودة، وغالباً تكون من نفس بلد التصنيع؟
إنه فن التسويق والتعلق بكل ما هو غير متوفر وأصبح متاحاً. السؤال الأهم هل وسائل التواصل لها الدور الأكبر في تشجيع الجمهور على أخذ التحدي والوقوف لفترات طويلة بهدف الدخول للمحل أو الكافيه أو أياً كان المنتج المنتظر؟ تجد الأغلب وهو ينتظر منشغلاً بجهازه الذكي لتضييع الوقت، وقد تكون تلك الأجهزة العامل الأكبر في مساندتهم على التحدي والشراء وتوثيق الإنجاز بالتصوير.
قد أتفهم وأستوعب الانتظار لعيادة طبية أو لمراجعة في إحدى مؤسسات الدولة لتخليص معاملة هامة أو لأخذ تطعيم أو حتى للحصول على منتج أو كتاب أو غيره يكون نسخة محدودة أو بتوقيع كاتب، وغيرها من الأمور التي يستوعب العقل أن «النطرة تسوى». أما أن أقف بالساعات لشراء منتجات استهلاكية ومتوفرة، ويمكن الحصول عليها في أي وقت، ولها الكثير من البدائل، فهذه ظاهرة يصعب علي استيعابها، ولا أجد لها تفسيراً سوى قوة التسويق في وسائل التواصل الاجتماعي، وتأثيرها العميق الذي قد يلغي المنطق أحياناً.
* أستاذ مشارك – كلية العلوم الاجتماعية – جامعة الكويت