قراءة في كتاب «ألبرت وينسيميوس وسنغافورة: هنا سيحدث ذلك» (2/2)
• سنغافورة... من التخطيط إلى المعجزة الاقتصادية
التصنيع كمحرِّك للهوية الاقتصادية
في الستينيات، لم يكن التصنيع مجرَّد خيار اقتصادي، بل كان مسألة بقاء وكرامة وطنية. كان وينسيميوس يرى أن الصناعات التحويلية ستشكل العمود الفقري لأي اقتصادٍ صغير يريد الصمود أمام القوى الكبرى.
ومن هنا جاءت فكرته بإنشاء منطقة جورونغ الصناعية، وهي مشروع وُصف حينها بالمغامرة، إذ بُنيت على أرض مستنقعية تبعد عن الميناء القديم، ما أثار شكوك السياسيين والمستثمرين في آنٍ واحد.
لكن إصراره على المُضي قُدماً كان يستند إلى رؤية دقيقة: فالموقع الجديد سيسمح بإنشاء مصانع حديثة بعيداً عن المناطق السكنية المزدحمة، وسيجذب المستثمرين العالميين الباحثين عن مواقع منخفضة الكُلفة قريبة من طُرق التجارة الآسيوية.
وبالفعل، بدأت الشركات اليابانية والهولندية والبريطانية بتأسيس مصانع للإلكترونيات والمنسوجات والكيماويات، لتتحوَّل جورونغ خلال سنوات قليلة إلى رمزٍ لنهضة سنغافورة الصناعية.
كان هذا النجاح نتيجة تفاعل عناصر عدة: الإرادة السياسية، والتخطيط العلمي، وبيئة استثمارية واضحة القوانين. إلا أن الدور الحاسم كان لوينسيميوس، الذي صمَّم الخطة على أساس مفهومه الاقتصادي المفضَّل: «النمو القابل للتوسع»، أي بناء مشاريع يمكن تطويرها باستمرار وفقاً للنتائج، وليس التوقعات النظرية.
بعد عقود من مغادرة وينسيميوس لسنغافورة ظل قادتها يشيدون بدوره مؤكدين أن البلاد مدينة له بجزء كبير من نجاحها
التعليم والعمل والإنسان الجديد
لم يكن وينسيميوس يرى في الإنسان مجرَّد عامل اقتصادي، بل البنية الأساسية لكل تطوُّر مستدام. لذلك حرص على أن تترافق الثورة الصناعية مع ثورة تعليمية.
تعاون مع وزارة التعليم لتأسيس مناهج فنية وتقنية تتناسب مع متطلبات المصانع الجديدة، وأنشأ برامج تدريبية بالتعاون مع شركات أجنبية لتعليم الشباب السنغافوري كيفية استخدام التقنيات الحديثة.
في إحدى ملاحظاته الشهيرة، كتب وينسيميوس أن «سنغافورة قد لا تمتلك النفط أو الفحم، لكنها قادرة على إنتاج أعظم مورد في العالم: الكفاءة البشرية».
هذا المفهوم كان جوهراً في فلسفته: تحويل التعليم من عملية نظرية إلى أداة اقتصادية.
وبالفعل، أصبحت المدارس الفنية والمعاهد التقنية مراكز لتخريج جيلٍ من الفنيين والمهندسين الذين قادوا التحوُّل الصناعي.
كما أدرك أهمية تغيير الثقافة المجتمعية تجاه العمل. فبدل النظرة التقليدية التي تفضِّل الوظائف الحكومية، شجَّع على تقدير العمل الصناعي والإنتاجي. وساهمت حملات التوعية الحكومية في تعزيز هذه القِيم، فانتقل المجتمع من مرحلة الاعتماد إلى مرحلة المشاركة الفعلية في النمو الاقتصادي.
فكر وينسيميوس لم يكن اقتصادياً بحتاً بل كان إنسانياً أيضاً فكان يردد أن «الاقتصاد هو فن إدارة الأمل»
الانفتاح التجاري وبناء الجسور مع العالم
في المرحلة التالية، ركَّز وينسيميوس على جعل سنغافورة مركزاً للتجارة والخدمات الإقليمية.
فمنذ البداية، أدرك أن بلداً صغيراً بلا موارد طبيعية يحتاج إلى الانفتاح الكامل على الاقتصاد العالمي.
وهكذا، وُضعت سياسة «الباب المفتوح» للاستثمارات الأجنبية، مع نظام ضريبي تنافسي، وبيئة أعمال شفافة، ومحاكم تجارية فعَّالة.
ساهم هذا الانفتاح في جذب شركات متعددة الجنسيات، ليس فقط لتصنيع السلع، بل أيضاً لإنشاء مقارها الإقليمية.
ولتعزيز الثقة، ساهم وينسيميوس في صياغة تشريعات واضحة لحماية المستثمرين الأجانب، مع الحفاظ على سيادة الدولة.
هذا التوازن بين الانفتاح والضبط جعل سنغافورة من أكثر الاقتصادات استقراراً في آسيا، وأكسبها سُمعة الدولة الصغيرة التي يمكن الوثوق بها.
وفي المقابل، لم يكن الانفتاح الاقتصادي بلا ثمن. فقد كانت هناك مخاوف من تزايد النفوذ الأجنبي في القرارات الاقتصادية. إلا أن وينسيميوس كان يؤمن بأن السيطرة لا تتحقق بالإغلاق، بل بالقوة التنافسية المحلية. لذلك، ركَّز على بناء مؤسسات محلية قوية، قادرة على العمل، جنباً إلى جنب مع الشركاء الدوليين، لا كتوابع، بل كأطراف متكافئة.
جوهر التخطيط الحقيقي في نظره: أن تزرع فكرة اليوم لتثمر في عقول أبناء الغد لا أن تبحث عن أرقام سريعة في التقارير السنوية
التحديات السياسية والاجتماعية
رغم النجاح الاقتصادي، واجهت سنغافورة تحديات اجتماعية حقيقية في تلك الفترة.
كان التوتر العرقي بين المكونات الصينية والملايوية والهندية تهديداً للاستقرار، وقد فهم وينسيميوس أن أي اضطراب اجتماعي قد يقوض إنجازات التنمية.
لذلك دعم توجه الحكومة نحو المساواة الاقتصادية بين الفئات، وربط السياسات الاجتماعية بالبرامج التنموية.
في هذا السياق، تم تطوير مشاريع إسكان جماعي تستهدف تحسين معيشة الطبقة العاملة، وإشراكهم في ثمار التنمية.
كما تم التركيز على برامج الادخار الوطني عبر «صندوق الادخار المركزي»، الذي وفَّر مظلة أمان اجتماعي للمواطنين، مما عزز الثقة بين الدولة والمجتمع.
الرسالة الجوهرية لوينسيميوس كانت واضحة: لا يمكن للفقر أن يتعايش مع النمو. فالاقتصاد المزدهر لا يزدهر إذا بقيت فئات واسعة من السكان على هامشه.
ترسيخ الهوية الوطنية عبر الاقتصاد
كان من اللافت أن التنمية الاقتصادية في عهد وينسيميوس لم تقتصر على الإنتاج، بل شملت أيضاً بناء هوية وطنية جديدة.
في بلدٍ صغير متعدِّد الأعراق، كان الاقتصاد وسيلة لتوحيد المجتمع حول هدف مشترك.
لقد تحوَّلت المصانع والمدارس والموانئ إلى رموز للانتماء، لا مجرَّد مؤسسات عمل.
أراد وينسيميوس أن يشعر السنغافوريون بأنهم جزء من قصة نجاح وطنية، وليسوا مجرَّد موظفين في خطة تنمية.
وكان يقول دائماً إن «الولاء الاقتصادي يولِّد الولاء الوطني»، وهي فكرة جريئة في زمن ما بعد الاستعمار، لكنها كانت واقعية في سياق سنغافورة.
من خلال توفير فرص عمل واستقرار اجتماعي، نشأت طبقة وُسطى جديدة قادرة على دعم سياسات الدولة ومواجهة التقلبات الإقليمية. وهكذا، لم يكن الاقتصاد مجرَّد وسيلة للثراء، بل كان أساساً للتماسك الوطني.
لم يكن التصنيع مجرَّد خيار اقتصادي بل مسألة بقاء وكرامة وطنية كان وينسيميوس يرى أن الصناعات التحويلية ستشكل العمود الفقري لأي اقتصادٍ صغير
من الدولة النامية إلى النموذج العالمي
في السبعينيات، بدأت نتائج الرؤية الشاملة تتجسَّد بوضوح. ارتفع الناتج المحلي الإجمالي بمعدَّلات قياسية، وتحوَّل ميزان التجارة من العجز إلى الفائض.
أصبحت سنغافورة مركزاً مالياً إقليمياً، وازدهرت قطاعات الخدمات المصرفية والتأمين والنقل البحري.
ترافق ذلك مع تطوُّر ملحوظ في البنية التحتية: طُرق حديثة، شبكة كهرباء متطورة، وموانئ تُعد من الأفضل في العالم.
هذه المرحلة مثلت تتويجاً لمجهودات وينسيميوس. فعندما غادر منصبه في منتصف الثمانينيات، كانت سنغافورة قد تجاوزت مرحلة الاعتماد على المعونات، وأصبحت اقتصاداً مستقلاً يعتمد على الكفاءة والإنتاجية.
اللافت أن هذا التحوُّل لم يكن مبنياً على اكتشاف ثروات طبيعية أو طفرة مؤقتة، بل على رؤية استراتيجية متكاملة بدأت من التعليم والصناعة، ووصلت إلى الثقافة الوطنية.
الإرث والدروس العالمية
رحل وينسيميوس عن سنغافورة في عام 1984، لكن أثره بقي حياً في كل زاوية من البلاد.
كل طريق وميناء ومصنع كان يحمل بصمة فكره.
حتى بعد عقود من مغادرته، ظل قادة سنغافورة يشيدون بدوره، مؤكدين أن البلاد مدينة له بجزء كبير من نجاحها. لكن إرثه الحقيقي لا يكمن فقط في الإنجازات المادية، بل في طريقة التفكير التي زرعها.
لقد أثبت أن الدول الصغيرة يمكنها تحقيق معجزات اقتصادية إذا أحسنت استخدام مواردها المحدودة بذكاء، واعتمدت على التخطيط العلمي والانفتاح المدروس.
كما أن فكره لم يكن اقتصادياً بحتاً، بل كان إنسانياً أيضاً. كان يردد أن «الاقتصاد هو فن إدارة الأمل».
بهذه العبارة، لخَّص جوهر التجربة السنغافورية: تحويل الشك إلى ثقة، والعجز إلى قدرة، والقيود إلى فرص.
قراءة في فكر أوستون كوا – المؤلف والرؤية
الكتاب الذي ألَّفه أوستون كوا لا يقدِّم فقط سيرة شخصية لوينسيميوس، بل يُعيد صياغة قصة نجاح سنغافورة من منظور اقتصادي وفلسفي في آنٍ واحد.
يرى كوا أن سر نجاح وينسيميوس كان في قدرته على رؤية ما لا يُرى: الإمكانيات الكامنة في الإنسان قبل الأرض، وفي التخطيط قبل الثروة.
اعتمد كوا على وثائق نادرة ومقابلات مع مسؤولين شاركوا في الخطة، ما جعل الكتاب أقرب إلى شهادة تاريخية موثقة.
كما أنه يضع فكر وينسيميوس في سياق عالمي، مقارناً تجربته بتجارب بلدان أخرى، مثل: كوريا الجنوبية، وتايوان، ليخلص إلى أن سنغافورة لم تقلِّد أحداً، بل ابتكرت طريقها الخاص.
الكتاب لا يقدم وصفة جاهزة، بل يقدِّم فلسفة تنموية تنطلق من مبدأ بسيط: «ابدأ بما تملك، لا بما تفتقد».
الدروس النهائيةأدرك أهمية تغيير الثقافة المجتمعية تجاه العمل فبدل النظرة التقليدية التي تفضِّل الوظائف الحكومية وشجَّع على تقدير العمل الصناعي والإنتاجي
يختتم كتاب ألبرت وينسيميوس وسنغافورة: هنا سيحدث ذلك برؤية تأملية شاملة، لا تقتصر على عرض إنجازات رجل اقتصاد فذ، بل تسعى لاستخلاص جوهر التجربة السنغافورية بوصفها نموذجاً نادراً لتحول بلد صغير إلى قوة اقتصادية عالمية.
ومن خلال قراءة متأنية للكتاب، يمكن تمييز ثلاث دروس كبرى تمثل خلاصة فكر وينسيميوس ومسار تجربته الممتدة على مدى ثلاثة عقود من العمل والتخطيط والمراجعة:
أولاً: الاقتصاد ليس معادلة جامدة، بل قصة بشرية
كان وينسيميوس يؤمن بأن التنمية ليست مجرَّد أرقام في الموازنات أو جداول في تقارير البنك الدولي، بل منظومة متكاملة تبدأ من التعليم، وتنتهي في المصانع، مروراً بالقيم الاجتماعية التي تربط الإنسان بعمله ووطنه. هذا الفهم الإنساني للاقتصاد هو ما جعل خططه في سنغافورة قابلة للحياة. فقد سعى إلى بناء الإنسان قبل البنية التحتية، وإلى غرس ثقافة عمل قائمة على الكفاءة والنزاهة والانضباط، بدلاً من الاعتماد على الحوافز المالية وحدها.
وقد انعكس ذلك في استثمار الدولة المبكر في التعليم الفني، وفي سياساتها الاجتماعية التي ربطت بين فُرص السكن والعمل والتدريب، بحيث يشعر المواطن بأن الدولة ليست مجرَّد جهة تنظِّم الاقتصاد، بل شريك في تحسين نوعية حياته. وهنا يظهر البُعد الإنساني العميق الذي ميَّز فكر وينسيميوس عن غيره من الخبراء الاقتصاديين في القرن العشرين.
ثانياً: التخطيط لا يُقاس بالسنوات، بل بالأجيال
من السمات الجوهرية في فكر وينسيميوس أنه لم ينظر إلى خططه على أنها مشاريع حكومية مؤقتة، بل بوصفها رؤية وطنية طويلة المدى. لذلك حرص على أن تكون الخطة الاقتصادية الأولى التي وضعها في ستينيات القرن الماضي قائمة على المعرفة العلمية، ومستندة إلى بناء مؤسسات تعليمية وبحثية قادرة على التطور الذاتي.
لم تكن الخطة مجرَّد وثيقة من خمس سنوات، بل خريطة طريق لأجيال كاملة من السنغافوريين. وبالفعل، ظلَّت أفكاره الأساسية- مثل: تنويع الاقتصاد، وجذب التكنولوجيا الأجنبية، والاستثمار في التعليم- تتجدَّد تلقائياً عبر عقود، لتثمر نتائجها حتى القرن الحادي والعشرين. هذا هو جوهر التخطيط الحقيقي في نظره: أن تزرع فكرة اليوم، لتثمر في عقول أبناء الغد، لا أن تبحث عن أرقام سريعة في التقارير السنوية.
ثالثاً: الدولة الصغيرة ليست ضعيفة بالضرورة
من خلال تجربته الطويلة، أثبت وينسيميوس أن الدول الصغيرة ليست محكومة بالهامشية، بل يمكنها أن تكون مختبراً للابتكار والسياسات الجريئة إذا توافرت لها رؤية واضحة وقيادة منفتحة على العالم.
سنغافورة في الستينيات لم تكن تملك الموارد الطبيعية ولا الأسواق المحلية الكبيرة، لكنها امتلكت ما هو أثمن: الثقة بالعلم والعقلانية والعمل الجماعي. ومن خلال تلك المقومات، استطاعت تحويل نقاط ضعفها إلى مصادر قوة- فالمساحة الضيقة أصبحت دافعاً للتخطيط الذكي، وندرة الموارد دفعت نحو التعليم والتكنولوجيا، وصغر السوق الداخلي شجَّع على الانفتاح التجاري العالمي.
كان وينسيميوس يرى في هذا النموذج ما يشبه المفارقة الجميلة: ف «القيود قد تكون محركاً للخيال»، والضعف الظاهر قد يتحوَّل إلى طاقة خلاقة إذا وُجدت قيادة تؤمن بأن النجاح لا يُستورد، بل يُبنى خطوة بخطوة.
وفي نهاية المطاف، يقدم الكتاب رسالة تتجاوز حدود سنغافورة نفسها:
أن التنمية ليست حكراً على الدول الكبرى، وأن الإرادة والوضوح والالتزام بالمعرفة يمكنها أن تصنع المعجزات حين تتلاقى في مشروع وطني صادق. فالتاريخ لا يخلِّد مَنْ يملك الموارد، بل مَنْ يُحسن استخدامها، وهذا ما فعله ألبرت وينسيميوس في سنغافورة— حوَّل الرؤية إلى واقع، والخطة إلى ثقافة، والدولة الصغيرة إلى مثالٍ حيّ على أن النجاح يبدأ من الفكرة الصحيحة، لا من الحجم أو الثروة.
التنمية فن إدارة الممكن
يُظهر كتاب «ألبرت وينسيميوس وسنغافورة: هنا سيحدث ذلك» أن قصة سنغافورة ليست مصادفة تاريخية، بل ثمرة تعاون بين فكر استراتيجي وقيادة مؤمنة بالتغيير.
فمن خلال الجمع بين الكفاءة والإرادة، استطاع وينسيميوس أن يحوِّل جزيرة صغيرة بلا موارد إلى مركز اقتصادي عالمي.
هذه القصة لا تزال اليوم مرجعاً للدول الباحثة عن طريقها في عالم معقد، تذكِّرنا بأن التنمية ليست حجماً جغرافياً، ولا ثروة طبيعية، بل هي فن إدارة الممكن وتحويله إلى واقع.