تقرير اقتصادي: زعزعة اليقين... تقلص إنفاق المستهلكين

• أول تراجع ل 9 أشهر منذ «كورونا» ول 3 فترات فصلية منذ 10 سنوات
• ضبابية تغييرات «الجنسية» والعلاوات والدعوم والرسوم تضغط على معنويات المستهلكين
• غياب «الاكتتابات» ومنتجات الادخار وتوسُّع الأعمال تقوض فكرة «الوعي الاستهلاكي»

نشر في 06-11-2025
آخر تحديث 05-11-2025 | 18:39
محمد البغلي
محمد البغلي

صدرت خلال الأسبوع الجاري بيانات بنك الكويت المركزي عن معدلات الإنفاق الاستهلاكي في البلاد عن فترة الأشهر التسعة من العام الحالي (يناير الى سبتمبر) والتي كشفت عن انخفاض ب 4.66 بالمئة، أي ما يوازي 1.67 مليار دينار، ليصل إجمالي إنفاق المواطنين والمقيمين الى 34.35 مليارا، مقارنة ب 36 مليارا خلال الفترة ذاتها من 2024.

ومثّلت هذه البيانات أول تراجع لحجم الإنفاق الاستهلاكي في البلاد منذ جائحة كورونا الذي سجّل معدلات نمو إيجابية خلال الفترة المماثلة من السنوات الماضية بما لا يقل عن 8 بالمئة حتى انخفض العام الحالي سلبيا ب 4.66 في المئة، كما عبّرت هذه البيانات عن أول انخفاضات سلبية ل 3 فترات فصلية متتالية منذ 10 سنوات، حيث تراجع الإنفاق الاستهلاكي في الربع الأول من العام الحالي ب 5.9 بالمئة، وفي الربع الثاني 5.4 بالمئة، وواصل تراجعه حتى بلغ في 9 أشهر 4.66 بالمئة.

وتتسق هذه البيانات مع أرقام أخرى تبيّن تراجع معدلات الإنفاق في البلاد كتراجع حجم العمالة المنزلية في الربع الثاني بواقع 3.7 بالمئة، أو انخفاض الإنفاق على السفر خلال النصف الأول من العام الحالي بنحو 10 بالمئة.

ويعبّر مستوى الانفاق الاستهلاكي عن حجم قيمة الصرف البطاقات المصرفية عبر نقاط البيع والمواقع الإلكترونية أو معاملات السحب الآلي أو السحوبات النقدية خلال فترة معيّنة.

العلامة الأولى

ومع أنه لا يوجد سبب محدد يفسر بشكل حاسم أسباب تحوّل الإنفاق الاستهلاكي في البلاد من النسق الإيجابي الى السالب، إلا أنه تجدر الإشارة إلى أن الربع الأخير من العام الماضي أي (أكتوبر إلى ديسمبر 2024)، الذي شهد حالة متصاعدة من عدم اليقين مع بدء عمليات «سحب الجنسية» وخفض بعض العلاوات والمزايا المالية لموظفي القطاع العام، فضلا عمّا يثار عن مراجعات للدعوم أو قرارات فعلية بزيادة قيمة الرسوم الخاصة بخدمات الدولة، إضافة إلى الخفض الذي مسّ العديد من المعاشات التقاعدية المستقرة قد أعطى أول علامة لافتة لتباطؤ نمو الإنفاق الاستهلاكي، حيث وصل النمو إلى 0.8 بالمئة فقط، بعد ارتفاعات فصلية لا تقل عن 4 بالمئة قبل أن يدخل القناة السالبة في العام الحالي.

من واجب الإدارة العامة أن تشرح بصورة شفافة خطواتها المتعلقة بمعيشة الناس ورواتبهم وطبيعة التزاماتهم مع مؤسسات الدولة

معنويات المستهلكين

وقد جاءت هذه السياسات على نحو مفاجئ، ومما زاد في حالة عدم اليقين بها أنها غير مرتبطة بخطة واضحة، مما أحدث ربكة في الأسواق أثرت على معنويات المستهلكين، وبالتالي انعكست على واقع بيئة الأعمال، لاسيما أصحاب المشروعات الصغيرة والمتوسطة الذين يكرر الخطاب الحكومي حرصه على دعم أوضاعهم لإصلاح سوق العمل، بينما في حقيقة الأمر يرفع من درجة عدم اليقين التي تضغط على أعمالهم، وتقلل من جاذبية المبادرات وفرص العمل في القطاع الخاص، وهم يعانون في الأصل مشكلات متراكمة وضغوط قلة الأراضي وارتفاع الإيجارات ومصاعب التمويل والبيروقراطية الحكومية.

ربكة قانونية

كذلك تخلق السياسية الفجائية ربكة تتعلق بالمراكز القانونية والمالية تجاه عملاء البنوك فيما يتعلّق بالالتزامات المصرفية، لكن - بنظرة أشمل - تعبّر عن أزمة أكبر، وهي أنها توهم متخذ القرار التنفيذي بأن هذه الحلول الجزئية على صعيد الجباية المالية والخفض المفاجئ للمزايا المالية توفّر للدولة في أفضل الأحوال عشرات الملايين من الدنانير على حساب عدم وجود مشروع إصلاحي مستدام يرفد الدولة بمليارات بشكل مباشر أو غير مباشر عبر الوظائف والاستثمارات والخدمات.

أول إشارة لتباطؤ نمو الإنفاق الاستهلاكي كانت في الربع الأخير من 2024 وبعدها تحوّل إلى القناة السالبة

عدم اليقين

لا شك في أن بيانات «المركزي» عن تراجع الإنفاق الاستهلاكي في البلاد تتطلب وضع العديد من المعالجات، أولاها تجاوز حالة عدم اليقين التي تسيطر فيها الشائعات المتعلقة بمعيشة المواطنين والوافدين، حيث تكون الصورة واضحة للمستقبل على المدى المتوسط على الأقل، فضلا عن تطوير أدوات القياس الإحصائية التي يُفترض أن تعمل الإدارة المركزية للإحصاء على تطويرها، مثل ضرورة وجود مؤشر لثقة المستهلك يرصد توقعات الناس تجاه الأوضاع الاقتصادية والجيوسياسية المؤثرة على سلوكيات الإنفاق والاستهلاك في السوق.

تضخم ومسح

وإضافة إلى ما سبق، تم تحديث قواعد أعداد بيانات التضخم مع إعادة احتساب تكاليف «السكن» بوزنها الحقيقي عند إعداد التقارير، فضلا عن تفعيل تقرير مسح الدخل والإنفاق الأسري، وهو تقرير من المفترض أن يكون سنويا، وقد أُجري لآخر مرة لمسح الفترة 2019/ 2021، وهو متأخر 9 سنوات عن آخر مسح عام 2013، وهو غالبا يحتاج الى أدوات احترافية تتجاوز تقديم الأرقام العامة «الصماء» الى دراسات تفصيلية عن تفاوت متوسطات الدخل أو اتجاهات الإنفاق لتكون الصورة أكثر وضوحا، خصوصاً مع تزايد الخطاب الرسمي الخاص بإعادة هيكلة الدعوم والخدمات التي تقدّمها الدولة للمواطنين والمقيمين.

عدم اليقين انعكس على واقع بيئة الأعمال لاسيما المشروعات الصغيرة التي يكرر الخطاب الحكومي حرصه على دعم أوضاعها

مشكلة أم وعي؟

وربما يقول قائل: أليس من الأفضل أن يرشّد المستهلكون إنفاقهم، خصوصا على السلع والخدمات الكمالية، بدلا من التوسع في الإنفاق الاستهلاكي الضار اجتماعيا وماليا؟

من دون شك أن ضبط الإنفاق وتوجيهه نحو قنوات الإنفاق الضرورية والصحيحة مسألة مهمة، لكن وجود «وعي استهلاكي» في الكويت يتطلب قنوات استثمار وادّخار وأعمال ترفع من جودة إنفاق المستهلكين، كطرح الدولة للاكتتابات العامة في تأسيس شركات تشغيلية وخدمية مساهمة، أو تطوير برامج ومنتجات ادخارية عبر مؤسسة التأمينات الاجتماعية تمنح عوائد محدودة المخاطر للمشتركين والمتقاعدين، أو توسّعا كبيرا في بيئة الأعمال من خلال توسّع منح الدولة للأراضي لمصلحة المبادرين... ومن دون وجود هذه القنوات يكون الحديث عن تراجع الإنفاق الاستهلاكي تعبيرا عن مشكلة تواجه الاقتصاد والمجتمع.

فصل وصورة شفافة

لا يمكن الفصل بين تراجع حالة عدم اليقين في المجتمع وانخفاض إنفاق المستهلكين، وبالتالي فإن من واجب الإدارة العامة أن تشرح، بصورة شفافة، خطواتها الخاصة بكل ما يتعلق بمعيشة الناس ورواتبهم وطبيعة التزاماتهم مع مؤسسات الدولة، وفق اعتبارات اقتصادية واجتماعية وحتى إنسانية، حتى تكون الصورة واضحة وتتحدد بعدها خيارات المستهلكين في توجيه الإنفاق ومساراته.

back to top