عالم وينستون العربي

نشر في 05-11-2025
آخر تحديث 04-11-2025 | 20:06
 حسن العيسى

في رواية جورج أورويل «1984» يعيش وينستون سميث تحت عين الأخ الأكبر، في عالم لا مكان فيه للصدق أو الحرية، حيث اللغة نفسها تُفكَّك لتُعاد صياغتها بما يخدم السلطة.

لكن السؤال الأكثر وجعاً: أليس الوطن العربي، بمجمله، هو عالم أورويل ذاته؟

صحيح أن درجات القمع والرقابة تختلف من بلد إلى آخر، إلّا أن شعار «الأخ الأكبر يراقبك» يلاحق وينستون العربي في كل زاوية من حياته. بل إن التوصيف الأدق ربما يكون: «الأب الكبير يراقبك»، في عالم قمعي بطركي يتحكم فيه الأب السيد بكل تفاصيل الحياة العامة والخاصة.

الأب هنا ليس حنوناً، ولا يسعى لمستقبل أبنائه، كما يتوهم البعض، بل لمستقبله هو، لصورة سلطته كما يتخيلها هو.

فالإنسان العربي الواعي مطالَبٌ دائماً بإلغاء عقله، بتعطيل وعيه، لأن الثقافة حين تنطق تُصبح خطراً على الدولة الأبوية، ولأن الكلمة الحرة هي الخطيئة الكبرى في ممالك الطاعة.

يحيا وينستون العربي دائماً وهو تحت عين الكاميرا، عين المراقبة التي لا ترمش.

وإن كان موظفاً في «وزارة الحقيقة» أي الإعلام فإن مهمته ليست قول الحقيقة، بل إعادة تشكيلها بما يتناسب مع رواية السلطة.

التاريخ يُعدّل، والوقائع تُقلَب، واللغة تُمسخ لتخدم «الأب المهيمن».

وفي النهاية، لا قيمة لوينستون في معادلة الدولة، فهو مجرد موظف صغير من الشرائح الدنيا للطبقة الوسطى في بلاد الموظفين. وجوده أو غيابه لا يغيّر شيئاً، إنه بُرغي زائد عن الحاجة في ماكينة القطاع العام الهائلة، ماكينة تدور لتعيد إنتاج الخضوع فقط.

الدولة نفسها لا تختلف عن القطاع العام، لا بل هي القطاع العام بعينه.

هي ماكينة عملاقة تحرّك الحياة اليومية لجهاز بيروقراطي مستبد يملكه الأب ملكية مطلقة.

يعيّن مَن يشاء، ويمنح الرواتب والمعاشات، ويوزع الامتيازات كما يوزع الولاءات، ويراقب الجميع كما لو كانوا تروساً في مصنع واحد.

مصنع لا ينتج شيئاً سوى علب الطاعة المعلّبة، تُوزع مع الرواتب الشهرية، ممهورة بختم الولاء الأبدي.

هل يمكن أن يتغير عالم وينستون العربي؟

ربما.

فقد كانت هناك محاولة حين تمرّد هذا العالم في ربيع 2011، طلباً للخبز والحرية.

لكن الحلم تعثّر، وانقلب الربيع إلى خريف طويل.

عاد الأب الراعي إلى صهوة الحكم بقبضة أشد وأقسى.

انتصرت الثروة على الثورة، أو ربما لم تكن ثورة بالمعنى الكامل، بل محاولة إصلاح عفوية وذلك، كما يقول بعض المحللين - كان الخطأ التاريخي الأكبر.

في النهاية، لا يزال وينستون العربي يعيش في عالمه المقموع، يحلم أن يكتب الحقيقة دون خوف، أن يرى العالم بلا كاميرات ولا شعارات مزيّفة.

لكن حتى إشعار آخر، ما زال صوت الأب الكبير يهمس في أذنه:

«احذر أن تفكر بصوت عالٍ، فالكلمات أيضاً لها عيون».

back to top