الحياة بلا حركة... وباء صامت يسرق العمر والكرامة

نشر في 04-11-2025
آخر تحديث 03-11-2025 | 18:37
 محمد الجارالله

يقلقني كثيراً ما أراه من ظاهرة تسري في حياتنا اليومية بصمتٍ يشبه دبيب النمل، تتسلّل إلى الجسد بلا ألمٍ ظاهر، ثم تفترسه رويداً من الداخل.

إنها متلازمة العصر الحديث، التي يسميها الطب «الحياة الخاملة» (Sedentary Life Syndrome) - نمط من العيش لا جهد فيه ولا حركة، يظن صاحبه أنه بخير، بينما هو في الحقيقة يستهلك رصيد صحته ببطءٍ قاتل.

يقضي الإنسان يومه متنقلاً بين مقعد السيارة ومكتب العمل وأريكة المنزل، ثم يستسلم للشاشات، ليكتشف بعد سنوات أن جسده لم يعد يطيق الصعود، وأن قلبه يئن من الإرهاق، وأن المفاصل تثقل عليه الحركة كما لو كانت سنوات العمر قد تضاعفت عليه.

تشير منظمة الصحة العالمية إلى أن نقص النشاط البدني مسؤول عن ملايين الوفيات سنوياً، وأن أكثر من ثلث البالغين في العالم لا يحققون الحد الأدنى من الحركة المطلوبة للحفاظ على أجسادهم. وهي أرقام تُظهر أن الكسل لم يعد سلوكاً فردياً، بل وباء صامت يعصف بالمجتمعات الغنية والمترفة قبل الفقيرة والمحتاجة.

حين يصبح الكرم عبئاً

ولعل أبرز ما يغذّي هذا الوباء في مجتمعاتنا الخليجية هو ثقافة الولائم المتكررة التي تجاوزت حدود الكرم إلى حدود الإسراف.

لم تعد الوليمة استثناءً، بل عادةً يومية تتكرر تحت مسمياتٍ شتّى: دعوة غداء، عزيمة، عشاء جماعي، مناسبات لا تنتهي، وكأننا نخوض سباقاً في حجم القدور وعدد الصحون.

تغيب عن الموائد معاني التوازن، ويحضر الإفراط، فتُثقل البطون وتخمد الهمم، ثم لا حركة بعد الطعام سوى الانتقال إلى مجلسٍ آخر أو مقعدٍ آخر.

وهكذا تتلاقى الحياة بلا حركة مع الحياة بالإفراط لتشكلا مزيجاً مهلكاً يختصر كثيراً من أمراضنا المزمنة: الضغط، والسكر، والكوليسترول، والهشاشة، وآلام الظهر والمفاصل، بل وحتى الاكتئاب.

لمحة إيمانية... بين الدعاء والعمل

قال رسول الله ﷺ في دعاءٍ عظيم يجمع جوهر العافية: «اللهم متّعنا بأسماعنا، وأبصارنا، وقوّاتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منّا»، دعاء عجيب يجمع بين الإقرار بالنعمة والرجاء في دوامها.

لكن التأمل فيه يُظهر أن الدعاء وحده لا يكفي ما لم يصحبه سعي لتحقيق معناه.

فمن دعا الله بالرزق عليه أن يذهب إلى السوق، ومن دعا بالعلم عليه أن يسعى إليه، ومن دعا بالعافية عليه أن يبذل السبب لحفظها.

وبذل السبب هنا يعني أن يعيش الإنسان على نقيض «الحياة الكسولة»، فيمارس الحركة، ويوازن في الطعام، ويقاوم الخمول. فالصحة المستدامة لا تأتي بالدعاء المجرد، بل بالدعاء الذي يصاحبه عمل وسعي وجد.

ولذلك أيضاً كان من دعائه ﷺ أن قال: «اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل»، فالكسل عدوّ الحركة، والعجز عدوّ الإرادة. ومن أراد الاستجابة الكاملة لهذا الدعاء فليكن في حياته ضدّ العجز والكسل، فيتحرّك، ويعمل، ويُحسن إدارة جسده ووقته، ويجعل النشاط عادة لا استثناءً.

إن المؤمن الذي يحرّك جسده، ويمشي في أرض الله، ويسعى إلى القوة والنشاط، إنما يطبّق في واقعه معنى هذا الدعاء النبوي العظيم.

نحو خطة عملية قابلة للتنفيذ

ولأن التغيير لا يتحقق بالكلام وحده، فإن البداية الحقيقية نحو الصحة المستدامة لا تحتاج إلى شعارات ولا إلى أجهزة رياضية معقّدة، بل إلى نظام حياة بسيط ومنضبط.

ابدأ أولاً بقطع فترات الجلوس الطويلة، فبعد كل ساعةٍ من الجلوس، انهض وتحرك لبضع دقائق، تمدّد أو امشِ داخل المكان، وستُدهش من أثرها التراكمي على الدورة الدموية والمفاصل.

ثم اجعل لنفسك موعداً يومياً للمشي السريع، ثلاثين دقيقة على الأقل في معظم أيام الأسبوع، بسرعةٍ ترفع نبض القلب وتجعلك تلهث قليلاً — فهذا هو المقياس الحقيقي للمشي النافع.

وأضف إلى يومك تمرينات خفيفة للمقاومة أو الثبات مرتين أسبوعياً فقط، مثل القرفصاء باستخدام الكرسي، أو الضغط على الجدار، أو تمارين الكتف والظهر، فهي تقوّي العضلات وتمنع الترهل وتحافظ على كثافة العظام.

أما في الجانب الاجتماعي فبدل أن تكون اللقاءات حول مائدةٍ ثقيلة، فلتكن لقاءات حركة: نزهة جماعية، أو مشي بعد الغداء، أو زيارة تُقطَع بالتمشّي لا بالجلوس.

والهدف في النهاية ليس شكل الجسد ولا بناء العضلات، بل أن يبقى الإنسان مستقلاً معافى حتى آخر عمره، أن يلبس وحده، ويصعد الدرج بثقة، ويحمل حاجته دون عون، ويعيش ما بقي من عمره بنشاطٍ وكرامة.

الصيام المتقطع الإسلامي... عبادة نافعة للجسد والروح

ومن أروع ما جمع بين الإيمان والصحة في تراثنا هو الصيام الإسلامي المتقطع الذي أوصى به النبي ﷺ، بصيام الاثنين والخميس، أو الأيام البيض من كل شهرٍ عربي.

وقد أثبتت الدراسات الحديثة أن هذا الصيام يتفوّق على أي نظام غذائي حديث في فوائده الصحية، إذ يسهم في خفض ضغط الدم، وتنظيم الكوليسترول، وتحسين حساسية الإنسولين، والوقاية من أمراض القلب والجهاز الهضمي.

لكن ما يُفسد هذه الفوائد عند البعض هو الولائم المبالغ فيها بعد الإفطار، حين تتحوّل الموائد إلى سباقٍ في الأطباق لا في النوايا، فتهدر الفائدة الروحية والصحية معاً.

وقد ذكَّرتني صحبةُ بعض الأصدقاء في إحدى استراحات كبد بمشهدٍ طريف، حيث يطغى الكرم حتى يكاد يبتلع الحكمة من الصيام نفسه، فاستحضرت قول الشاعر معروف الرصافي في تصوير الشره البشري بدقةٍ ساخرة:

أكبَّ على الخِوانِ وكانَ خِفًّا

فلمّا قامَ أثقَلَهُ القِيامُ

ووالى بينَها لُقَمًا ضِخامًا

فما مَرَّتْ بفِيهِ اللُّقَمُ الضِّخَامُ

كلماتٌ من زمنٍ بعيد لكنها تصف واقعنا القريب، حيث تتحوّل بعض الولائم الدينية إلى مشاهد من المبالغة التي تُفسد روح العبادة.

فما أجمل أن نعيد للصيام معناه الحقيقي: توازناً في الأكل، وتهذيباً للنفس، وشفاءً للجسد.

خاتمة

الحياة بلا حركة ليست راحة... إنها تدهورٌ صامت يتسلّل ببطءٍ حتى يسلب الإنسان أجمل ما عنده: استقلاله وصحته.

وإذا كان النبي ﷺ قد علّمنا أن ندعو بالعافية ونستعيذ من العجز والكسل، فإنّ التطبيق الحقيقي لهذا الهدي هو أن نعيش حركةً وهمةً وسعياً دائماً.

كل خطوة نخطوها نحو النشاط هي شكرٌ لله على نعمة الجسد، وكل لحظة نقاوم فيها الكسل هي عبادةٌ خفية تحفظ لنا العمر والكرامة.

الحركة عبادة... والصحة أمانة، فاحفظوها كما تحفظون دينكم.

* وزير الصحة الأسبق

back to top