تكنولوجيا ساخنة ومنظمات باردة! *
كثيرون منّا علاقتهم بالتكنولوجيا الحديثة ووسائل التواصل يشوبها شيء من التناقض، حُبّ وبُغض، التصاق وهجران، رغبة في معرفة كل الأنظمة والبرامج الحديثة أو محاولة الاكتفاء بما نعرف. هي علاقة معقّدة متشعبة ومتناقضة تختلط فيها الأمور والأوضاع، ولا تشبهها في ذلك سوى بعض أو كل علاقات الحب والعشق الأول!
هي توصلنا بمن نحب وتنقل لنا أخبارهم إذا أرادوا ذلك، وهي أيضاً تنقلنا إلى عوالم وصور ومناظر ومعرفة بضغطة زر، وتمنحنا القدرة على أن نكون في أكثر من مكان في اللحظة ذاتها، لكنها أيضاً تقتحم عزلتك حين تكون في أشد الحاجة إليها، تتطفل عليك أو تسمح لآخرين بذلك، وأحياناً تعيد لك وجوهاً وصوراً كنت قد وضعتها في ملف النسيان، وفجأة تبرز رسالة «أعطاني أحدهم هذا الرقم لك بعد طول انقطاع، فإذا كان صحيحاً، الرجاء إرسال عنوان بريدك الإلكتروني».
رسالة قصيرة جافة كأنها قادمة من مقبرة بعيدة، مقبرة بلا شواهد ولا ورود ولا أشجار!! محايدة، رغم أن الحياد أصبح من أكثر الأمور صعوبة وتعقيداً. ومع قراءة الاسم في آخر الرسالة، تبخّر الاستغراب من الرسالة المتصحرة، لأنها تشبه صاحبها.
هو كان أحد رؤسائي في المنظمة الدولية، مديراً، بل موظّفاً أممياً يجيد فنّ الدوران حول لا شيء، رجل المكاتب اللامعة والقرارات المؤجَّلة، بيروقراطي أنيق يتقن لغة العجز المنظم، رئيس يوزّع الكلمات كما يوزّع الوقت على الاجتماعات، وهو حتماً مدير بلا قضية، لكن بجدول مزدحم. واحد بين كثيرين ممن عملت معهم في تلك المنظمات الدولية، وهم جميعاً والمنظمات تلك، يشكّلون مادة دسمة لكتاب سيكون الأكثر مبيعاً ربما؟! أن تنقل الصورة من المطبخ، هكذا قال لي أستاذي.
أعدت قراءة الرسالة الباهتة وأخذت نفساً عميقاً، مستعيدة بعض تهذيب أعمل جهدي ألّا أتخلى عنه، رغم انتشار مرض الوقاحة، وأرسلت عنوان بريدي الإلكتروني الذي طلب في رسالة قصيرة تُعد منتهى الحميمية مقارنة بما أرسل. لم تمضِ فترة طويلة إلّا ودق الجرس حامل اسم «الرجل الأبيض» الذكوري حتى النخاع، أو ربما هو مثل كثيرين من المسؤولين في تلك المنظمة، يرددون شعار التمكين والمساواة وحقوق المرأة، وهم في نهاية المطاف يرون أن مكان المرأة هو في الخلف، أو لكتابة محاضر الاجتماعات المملة. في تلك المنظمات نفسها تعشش الأمراض التي تكافحها هي بمبادئها وقيمها التي خطّها الأولون منذ تأسيسها.
الرسالة جاءت طويلة، لم تكن خاصة، بل لكل أعضاء الفريق الذي كان معنياً بإعادة هيكلة المنظمة الدولية. لم أتمالك نفسي من الضحك، بل القهقهة، ورحت أكلّم نفسي «لم يتغير شيء»، وتساقطت الصور المتراكمة على مر فترة من الزمان في أروقة المنظمات الدولية، حيث النفاق ليس عيباً، بل مهارة، يُدرَّس ضمنياً في كل اجتماعٍ واحتفالٍ ومأدبة عشاء.
تنتشر الابتسامات البلاستيكية، وتكثر كلمات الإطراء المطاطة، مثل «أنت ملهمة» «ما قدمتيه رائع»، «علينا أن نتعاون أكثر في القريب». هم يتبادلون الثناء كما بطاقاتهم الشخصية، يحيطون الفشل بعبارات التشجيع، وكل ذلك عبر كلمات منتقاة يسمونها «مهنية» وكثير من الابتسامات المطاطة!
أعادت الرسالة السؤال نفسه: ألم يحن الوقت لإعادة النظر في هذه المنظمات لتكون أكثر فعالية، كما كان هدفها منذ التأسيس، أي بعد الحرب العالمية الثانية، حيث جاءت بوعد ألّا تتكرر الماسي والحروب والظلم؟ إلا أنه وفي كل عام، تعقد القمم وتطلق المبادرات في قاعات الفنادق الفخمة، ويعاد المشهد نفسه، كلمات رنانة، صور تذكارية، تصفيق، ثم لا شيء يخرج، الجميع مقتنع بأنه قد أحدث تغييراً عبر البيانات والتقارير، ويستعد لعنوان للجلسة القادمة لكن يبقى الفقر والبطالة والعوز والظلم أكثر انتشارا من الأمراض المعدية.
بالطبع هناك كثيرون في هذه المنظمات لا يزالون مؤمنين بقيمها ويعملون بجهد وجدّ وبكثير من الصمت خارج المؤتمرات والقاعات الضخمة، وهم من يعرفون أن العالم بحاجة الآن الى مراجعة شاملة لهذه المنظمات ليس فقط في هياكلها، بل في أخلاقياتها ومعاييرها.
أغلقت الرسالة والجهاز، ولم أفكر حتى في أن أردّ أو انضم الى «الجوقة» التي أعادت صوراً ليست في معظمها مفرحة، ولا كلها محزن طبعاً!
* يُنشَر بالتزامن مع الشروق المصرية