في ظلال الدستور: أيام لها تاريخ... عبدالعزيز الصقر والمسؤولية السياسية للوزراء في الدستور
يتميز الإنسان عن غيره من المخلوقات بأنه ذو تاريخ، وأنه بهذه الميزة وحدها يتطور، وبالتعرف على تاريخ أسلافه منذ قرون وعقود من الزمن يتقدم عندما يتجنب زلاتهم، ويستفيد من تجاربهم، ويضيف إلى ما اكتشفوه وما اخترعوه كل جديد، فكل جيل لا يبدأ من فراغ: فهذه هي مقومات التقدم، أن تعترف لمن سبقنا من أجيال بفضلها، ولو كانت قد وضعت نبتاً وروته في أرض صحراء جرداء، ولا يتأتى للإنسان الإلمام بتاريخ وطنه وإدراك مغزاه وسر تطوره أو انتكاس خطواته إلا إذا قرأ التاريخ، وقد بدأ القرآن في أولى آياته البينات بكلمة «اقرأ»، ليستخلص من الحوادث التي قرأها العبرة والعظة.
والفرق بين الإنسان الواعي وغير الواعي هو إجادة قراءته للتاريخ وإحسان فهمه، ولعلني خلال الفترة الطويلة التي عشت فيها بالكويت أستزيد علماً، وما أوتيت من العلم إلا القليل، من خلال عملي الذي لم ينقطع، أشاهد وأعايش تجربة ديموقراطية رائعة تخللتها سلبيات وأخطاء، هي استخدام الاستجواب مطية للانقضاض على جوهر الدستور، وعلى مبادئه السامية، فكان الاستجواب هو محنة الدستور، على الرغم من الجهود المبذولة من قامات عريضة من وزراء ونواب ومفكرين وكتاب، بذلت النفس والنفيس في الدفاع عن الدستور في مواجهة موجة عاتية من الاستجوابات التي لم تعرف مثيلها أي دولة ديموقراطية، كذب فيها بالدين في صدر أغلب هذه الاستجوابات، فجاءت هذه الاستجوابات مخيبة لآمال هذه الأمة في التقدم وتحقيق التنمية الاقتصادية وزيادة الإنتاج ورفع مستوى المعيشة وتحقيق الرخاء للمواطنين.
وسوف أحرص في هذه السلسلة من المقالات (أيام لها تاريخ) على أن أقرن الأحداث العظيمة في حياة هذه الأمة بالقامات العريضة التي ساهمت في حدوثها.
وإذا كنا قد بدأنا في «أيام لها تاريخ» بالسيد عبدالعزيز الصقر، فهو أحد المؤسسين للدولة القانونية بالكويت، وقد شارك في وضع الدستور، إبان كونه وزيراً، بما يضمن للأمة سيادتها في ظل قيود وضعها الدستور على المسؤولية السياسية الفردية للوزراء، بحيث لا يجوز طرح الثقة بالوزير إلا بناءً على رغبته هو أو بطلب موقع من عشرة من أعضاء المجلس على الأقل (أي خُمس الأعضاء)، مثل مناقشة استجواب مقدم إليه، فإذا صدر القرار على الرغم من كل هذه العقبات اعتُبر الوزير معتزلاً منصبه من تاريخ قرار عدم الثقة، وقدم استقالته وجوباً إلى رئيس الدولة.
وكان من المأمون أن يحول جو التعاون المنشود، والذي حرص الدستور على تهيئة أسبابه دون اللجوء إلى هذا الإجراء الاستثنائي البحت، فالصالح العام هو رائد الوزير في الحكم، وهو كذلك رائد المجلس في الرقابة، فوحدة الهدف كفيلة بضمان وحدة الاتجاه وتلاقي المجلس والحكومة في تقدير صالح المجموع على كلمة سواء.
أنقل هذا التصوير كما جاء في المذكرة التفسيرية للدستور، إلا أن أحد أعضاء المجلس التأسيسي من الأعضاء المنتخبين اقترح أن يكون التصويت لسحب الثقة بالإجماع، وقد سبقه اقتراح من عضو آخر منتخب، بأن يكون التصويت بسحب الثقة بالثلثين، فاستنكر السيد عبدالعزيز الصقر، رحمة الله عليه، وهو الوزير المعين في المجلس التأسيسي، هذا التشدد في سحب الثقة من الوزراء، لما ينطوي عليه الإجماع من استحالة سحب الثقة، لأنه ليس من مصلحة البلاد.
هكذا أروي هذه القصة من واقع مناقشات المجلس التأسيسي لأبين كيف وضع الدستور، وكيف وضعت هذه الضمانات في جو يسوده حب الوطن، والتطلع إلى مستقبل أفضل في تناغم ومحبة وتآلف بين الوزراء المعينين في المجلس التأسيسي، وبين الأعضاء المنتخبين في المجلس، فوحدة الهدف كانت رائد الجميع في تحقيق مصلحة الأمة، إلا أن الرياح قد تأتي بما لا تشتهي السفن.
وليست هذه القصة سوى طرفة عين في الاطلاع على تاريخ هذه الأمة، وطرفة عين في تاريخ وجلائل أعمال هذه القامة الرفيعة، عبدالعزيز الصقر، التي تحتاج إلى مجلدات.