التعليم العام الحكومي!
رغم الاختلافات الأيديولوجية والثقافية بين الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن (الولايات المتحدة، والصين، وروسيا، والمملكة المتحدة، وفرنسا)، والتي تقود العالم عسكرياً وسياسياً واقتصادياً، فإن اهتمامها المشترك بالتعليم يظهر جلياً في تصدرها لتصنيفات جودة التعليم العالمية للأعوام 2022-2024، حيث احتلت جميعاً مراكز متقدمة ضمن أفضل 35 دولة في التعليم العام، فضلاً عن صدارتها للمراكز الأولى في مجالات أساسية، كالرياضيات والعلوم والقراءة.
النتائج المتقدمة التي حققتها تلك الدول لم تأت من فراغ، رغم أن التعليم يقوم على الرعاية والتمويل الحكومي المباشر، ورغم اختلاف الأنظمة التعليمية وتفاوت عدد سنوات الدراسة، ففي الصين وفرنسا والولايات المتحدة مدة الدراسة 12 سنة، بينما في روسيا 11، وبريطانيا 13 سنة.
هنا يتبادر للذهن سؤال حول الكيفية التي استطاعت من خلالها هذه الدول الاحتفاظ بتلك المستويات المتقدمة، رغم اختلاف نظمها وتوجهاتها التعليمية!
الإجابة عن هذا التساؤل قد تتطلب الوقوف عند الوسائل التي أدت إلى ذلك الإنجاز، من خلال التعرُّف على عوامل النجاح التي مكَّنتها من مواصلة هذا التفوق، والتي يمكن إيجازها بالآتي:
1 - المملكة المتحدة، «نظام تعليمي مرن» يعتمد على تمكين المدارس من حُرية تطوير مناهجها الدراسية بالجمع بين التعليم الأكاديمي والمهاري، وتشجيع الاستثمار في البحوث التربوية، والتحديث المستمر للأساليب التعليمية، إلا أن هذه الحُرية مقيدة بمساءلة فعَّالة ونظام تفتيشي صارم، ومن خلال التركيز على تطوير قدرات المعلمين وتدريبهم، والأخذ بعين الاعتبار مفهوم الرواتب التنافسية بين المعلمين.
2 - الصين، استطاعت أن تحقق قفزة كبيرة خلال سنوات قليلة، بعدما خصصت ميزانيات هائلة لدعم التعليم العام، وأولته قيمة تقديرية عالية، وعمدت إلى إدراجه ضمن مفهوم «التعليم ثقافة مجتمعية»، كما أنها عملت على خلق برامج تدريبية مكثفة ذات طابع مهني للمعلمين، وعمدت أيضاً إلى زيادة أيام الدراسة، كما أعطت أولوية خاصة لمواد العلوم، والتكنولوجيا، والهندسة، والرياضيات.
3 - الولايات المتحدة، الفكرة الأساسية للتعليم العام تقوم على «التنوُّع والابتكار واللامركزية»، تنوُّع في تلبية احتياجات ورغبات الطلاب، ومرونة تامة للولايات والمقاطعات في اختيار المحتوى التعليمي، واستخدام مفاهيم الابتكار من خلال دمجها مع تقنيات التكنولوجيا الحديثة، وبناء الشراكات فيما بين التعليم العام والتعليم العالي، وأخيراً مشاركة القطاع الخاص في دعم المبادرات والمشاريع التعليمية.
4 - فرنسا، رفعت شعار «تكافؤ وجودة»، التكافؤ يعني مجانية التعليم وإتاحته للجميع. أما الجودة، فتعني توحيد معايير المتابعة والقياس، وتدريباً صارماً للمعلمين، من خلال معاهد متخصصة لإعداد المعلمين، أضف إلى ذلك اهتمامها بالفلسفة والتفكير النقدي ضمن مناهج متوازنة.
5 - روسيا، رفعت شعار «إرث قوي وإصلاحات»، حيث شكَّل هذا الإرث التاريخي، الذي ورثته من الاتحاد السوفياتي من بنى تحتية تعليمية قوية، عامل تحدٍّ يحتم عليها الاستمرارية الإصلاحية في المفاهيم التعليمية، لضمان تفوقها في علوم الرياضيات والفيزياء، وكذلك استمرارية تولي رعاية الموهوبين.
الحصيلة: رغم تباين الأنظمة التعليمية بين الدول، فإن المشتركات الجامعة تتضح من خلال وضع المسؤولية على المعلمين للارتقاء ببيئة التعليم، وتبني مناهج تربوية متطورة تجمع بين الأصالة والحداثة، ودمج البُعدين المعرفي والمهاري ضمن منهجية ابتكارية تُواكب متطلبات العصر، واستخدام آليات رقابية وتقويمية فاعلة ومؤشرات أداء دقيقة، وشراكة مجتمعية فاعلة بين المدرسة والأسرة، وتعزيز مكانة المعلمين والتعليم الاجتماعية، وإرساء نظام تحفيزي يعزز من روح المنافسة الإيجابية بشقيها المعنوي والمادي بين العاملين في الحقل التعليمي.
ودمتم سالمين