عبث إداري... يهدر الملايين ويطرد العقول

كتبت هذا المقال بعد أن شاهدت إعلاناً لإحدى الشركات الحكومية، عن شَغْل عددٍ من المناصب الفنية والقيادية كانت حتى الأمس القريب مشغولةً برجالٍ ونساءٍ من أنبل وأخلص ما أنجبت الكويت من كفاءاتٍ وطنية. قيادات عملت بإخلاص، وتعبت الدولة على تأهيلها، ثم أُقصيت بقراراتٍ مفاجئة، أقرب إلى المزاج منها إلى القانون.

ثمّة سرّ لا يُفهم. دولة تصرف مئات الملايين من الدنانير على التدريب، على البعثات، وعلى إعداد الكفاءات الوطنية، ثم تنهي خدماتهم فجأة، بلا سببٍ حقيقي، وكأنها تقول: نحن نمول الآخرين ليجنوا ثمار تعبنا. إنه العبث بعينه، عبث إداري لا يقل خطورة عن الفساد المالي. حين تصبح الكفاءة تهمة، والنجاح مثار شك، ويُقصى المبدع لأنه لا يصفق، ندرك أن الإدارة لم تعد تُدار بالعقل بل بالهوى، وأن المؤسسات تُدار بمنطق «من لا يعجبني فليرحل»، حتى لو كلّفنا ذلك خسارة عقولٍ أنفقنا عليها السنين والملايين. أية رؤية تنموية تُبنى على إقصاء العقول؟ وأي إصلاح ننتظره من نظامٍ يعاقب الجدارة ويكافئ الولاء الأعمى؟ لقد تحوّل القرار الإداري إلى سلاحٍ شخصي، تُمارسه بعض الإدارات على حساب المصلحة الكبرى. الكارثة ليست في إنهاء خدمة موظف، بل في إنهاء ثقافة احترام الكفاءة. ليست في توقيع قرار فصل، بل في فصل الدولة عن عقلها الجمعي. نعم، الدولة تدفع الثمن مرتين: مرة عندما تنفق الملايين على تدريب الكفاءات، ومرة أخرى عندما تطردهم ليعملوا عند من يعرف قيمتهم. وهكذا نخسر المال والخبرة معاً، ونحتفظ فقط بمن يجيد «السمع والطاعة». لقد آن الأوان لمساءلة هذا النمط من التفكير، الذي يخلط بين الولاء للأشخاص والولاء للوطن. فالوطن لا يُبنى بالمجاملات، ولا يُصان بالترضيات، بل يُبنى حين يُكرَّم العقل لا يُقصى، وحين يُحاسَب من يهدر الملايين لا من يفضح الخطأ. نحو إصلاح حقيقي ما نحتاجه اليوم هو ثقافة إدارية جديدة تعتبر الإنسان رأسمال وطني لا يُفرّط فيه. يجب تشكيل لجنة وطنية لحماية الكفاءات بإشراف ديوان الخدمة المدنية ومجلس الوزراء، تراجع قرارات الإنهاء والتهميش، وتضع معايير عادلة تحفظ العدالة المهنية وتصون المال العام. فالاستثمار الحقيقي ليس في المباني ولا في الشعارات، بل في العقول التي تبني الوطن وتؤمن به. وأكبر خسارة لا تُقاس بالدينار، بل بكمّ العقول التي فقدت الثقة في الوطن.