رويديات: حين يصبح الحُب عبادة
الحديث عن الحُب ليس جديداً، فهو قديمٌ قِدَم الإنسان نفسه، يتجدَّد بتجدُّد القلوب، وبتبدُّل نظرتنا إليه. ومع ذلك، فإننا اليوم أحوج ما نكون إلى أن نتأمَّله من زاوية إنسانية صافية، بعد أن أفرغته الحياة الحديثة من معناه، وجعلته قولاً يُردَّد أكثر مما هو فعلٌ يُمارَس.
إن الحُب ليس كلمات منمَّقة، ولا وعوداً عابرة، بل هو عملٌ يومي يفيض من القلب إلى السلوك. الحُب هو أن نُعطي من دون انتظار، وأن نرى في العطاء لذَّة الوجود. هو أن نرحم، ونعفو، ونصبر، ونغفر، ونُحسن، لأن في أعماقنا يقيناً أن الله يُحب مَنْ يُحسنون. فالحُب الحقيقي لا يُقال، بل يُرى في أثره: في لمسةٍ صادقة، في ابتسامةٍ رقيقة بعد ذلك، في كلمةٍ طيبة، وفي نظرةٍ تزرع الطمأنينة في قلب مَنْ حولنا.
لقد فطر الله الإنسان على الحُب، على الميل إلى الخير والجمال والنور. غير أن صخب الحياة وأنانيتها شوَّهت تلك الفطرة، فغدت القلوب تطلب المصلحة بدل المودة والرحمة، والامتلاك بدل المشاركة.
ولعل العودة إلى صفاء الفطرة هي سبيلنا لاستعادة معنى الحُب الحق، الحُب الذي يُطهِّر القلب من الغِل، ويعلِّمه السَّخاء والعفو والسلام.
وإذا كُنا مؤمنين بالله حقاً، فالإيمان الحق يفتح لنا بصيرة القلب، لنرى الله في كل شيءٍ حولنا. نراه في طفلٍ يضحك ببراءة، في وجه إنسانٍ يبتسم رغم الألم، في زهرةٍ تتفتح بعد المطر، في طائرٍ غادر عشه ليفتش عن رزقه، في حيوان يبحث عن الأمان. نرى الله في كل خلقه، فنحبهم، لأنه خالقهم. وحين نُحب هكذا، يُصبح الحُب عبادةً، ويغدو الإحسان طريقاً إلى الطمأنينة.
حتى الابتلاءات والآلام والأمراض، حين ننظر إليها بعين الحُب، يبهت ثقلها، وتلين قسوتها، لأننا نوقن أنها جاءت بأمر الله، وفي أمر الله رحمة خفيَّة. فالحُب يجعلنا نرضى، والرضا يعلِّمنا أن نعيش كل لحظةٍ بمعناها الكامل، من دون تذمرٍ ولا جزع.
مَنْ أحب الله بصدقٍ، أحب الحياة بما فيها، فصار يرى الجمال في كل ما يُصادفه، حتى فيما يُوجعه.
إن الحُب الذي نعيشه في كل يوم، في كل تعامل، في كل موقف، هو الذي يُبدِّل حياتنا، ويهذِّب قلوبنا، ويُضيء دروبنا.
ليس الحُب ما نقوله، بل ما نكونه.
فكُن حُباً يمشي على الأرض، يكن الله في قلبك سلاماً، وفي روحك نوراً لا يخبو.