بصمة الدماغ وأسرار القلب

نشر في 31-10-2025
آخر تحديث 30-10-2025 | 18:20
 د. محمد عبدالرحمن العقيل

يوجد في الدماغ شبكة هائلة من الخلايا العصبية، تتبادل ملايين الإشارات الكهربائية كل لحظة، وتتحرَّك فيه أيونات مشحونة داخل الخلايا العصبية، فتولِّد تيارات كهربائية صغيرة، وينشأ عنها مجالات كهرومغناطيسية دقيقة تُحيط بالدماغ على شكل هالة غير مرئية. هذه «الهالة الدماغية» يمكن التقاط مداها بأجهزة شديدة الحساسية، فمثلاً تسجّل أقطاب التخطيط الكهربائي للدماغ (EEG) التقلبات الكهربائية على فروة الرأس، فيما يلتقط جهاز التخطيط المغناطيسي (MEG) ما ينبعث من حقول مغناطيسية واهنة حول الجمجمة.

المذهل أن بصمة هذه الموجات الدماغية تختلف قليلاً من شخصٍ لآخر، كما تختلف نبرة الصوت أو خطوط البصمة.

ظهر مفهوم «بصمة الدماغ» (brainprint) لوصف هذه الفروقات الفردية في أنماط الإشارات العصبية. وقد أثبتت دراسات، مثل: Wu et al. (2022) وFinn et al. (2015)، إمكانية تمييز الأفراد اعتماداً على بصماتهم الدماغية الفريدة. فكل دماغ يعزف موجاته الخاصة، ويمكن للتقنيات الحديثة التعرُّف على الشخص من خلال بصمة نشاطه العصبي الخاصة به، كما يتعرَّف جهاز البصمة على صاحبها.

ولا تقف استخدامات بصمة الدماغ عند حدود التحقق من الهوية. ففي ظروف مختبرية مُحكمة، بات بالإمكان استراق السمع إلى همسات المخ الداخلية. فقد استخدم فريق Willett et al. (2023) مصفوفة أقطاب مزروعة على سطح الدماغ (تقنية ECoG) لالتقاط الإشارات العصبية المرافقة لكلمات يتخيلها المرء قبل النطق بها. 

في تلك التجربة استطاع الباحثون فك شفرة جُمَلٍ يتحدَّث بها الشخص في عقله، مُحققين دقة لافتة في التعرُّف على الكلمات التي يُوشك أن ينطقها. كما أكدت دراسات، مثل: Makin et al. (2020)، أن النشاط الدماغي أثناء «نية النطق» يختلف بوضوح عن الشوارد الذهنية أو التفكير المُجرَّد، مما يسمح للأجهزة بتمييز اللحظة التي يحاول فيها الإنسان التعبير بالفعل.

خلاصة القول، إن الأجهزة المتطورة لا تقرأ الأفكار الطليقة أو الخواطر العابرة، بل تترجم النية الواعية للتعبير.

عزيزي القارئ، ذكرني هذا الموضوع بقرينَي الإنسان من الملائكة والجن، حيث يقرآن ما يدور في قلب الإنسان، وما ينوي فعله. فقد جاء في الصحيح عن النبي، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: «ما منكم من أحد إلا وقد وُكِّل به قرينُه من الملائكة وقرينُه من الجن...»، وفي رواية: «... قالوا: وإياك يا رسول الله؟ قال: وأنا، إلا أن الله أعانني عليه، فأسلم، فلا يأمرني إلا بخير».

وفي حديثٍ آخر عن النبي، صلى الله عليه وسلم: «إن الله كتب الحسنات والسيئات ثم بيَّن ذلك، فمَنْ همَّ بحسنة فلم يعملها كتبها الله له حسنةً كاملة...» إلى آخر الحديث. هذا الحديث يدل على أن مجرَّد الهمّ بالحسنة تُكتب به حسنة، مما يعني أن الملَك الموكَّل يطلع على نية الإنسان، فيكتبها.

إن كلا القرينين يتابعان قلب الإنسان عن قُرب بما قدَّره الله، فالملك يفرح بصفاء القلب وإقباله على الله ليسجل أعماله الصالحة، والشيطان يترصد لحظات الضعف والتشتت والغفلة ليزيده همَّاً وغمَّاً وحزناً، أو يغويه للشر والشّح والانتقام.

أما الشوارد الذهنية والأسرار العميقة، فلا يعلمها إلا خالقها، «فَإِنَّهُ يَعلَمُ ٱلسِّرَّ وَأَخفَى».

back to top