صخب المهرجانات أثر على ماء! *

نشر في 27-10-2025
آخر تحديث 26-10-2025 | 18:37
 خولة مطر

يقول جبران خليل جبران: 

ويل لأمة تكثر فيها المذاهب والطوائف وتخلو من الدين... ويكمل حتى «ويل لأمة سائسها ثعلب، وفيلسوفها مشعوذ، وفنها فن الترقيع والتقليد وووو». ويل لها لتلك الأمة... بل ويل لنا...  

فيما يبحث البعض عن بصيص أمل في كومة الدمار، يصطدم بحجم الانشغال بكثير من الزركشة المصطنعة بعض الشيء حولنا. هناك بالطبع مساحة، بل مساحات للفرح وسط الدمار وهناك من ينقش الأمل في ذاك الممر الطويل المظلم. في نفس تلك اللحظة تتصادم الصور القادمة من مدن عربية قريبة جداً للوجع الدائم. تنقل صوراً مخالفة لذاك المشهد العام، صور بريق وأضواء وضحكات صاخبة وموسيقى أكثر صخباً وربما بعضها أكثر قبحاً. يقول ذاك الواقف عند حافة ما بين بين أو الباحث عن أعذار: «كل المهرجانات والاحتفاليات في العالم متشابهة وهي في مجملها صاخبة» فيأتيه الرد من لقطات من مهرجانات اتسمت بكثير من البساطة والتركيز على مضامين ما سيقدم من فن لا على المظهر. 

 ومن زاويتها في آخر الطاولة، تستفيق الصديقة والباحثة، من صمتها لتقول له، إن الفن لم يكن يوماً محايداً، بل كان منذ أن خط الإنسان الأول صور خوفه وأحلامه وواقعه على جدران الكهوف، كان الفن فعلاً إنسانياً أو ربما شهادة على الوجود وعلى الواقع ضد النسيان. يحتدم النقاش وتتحرك أدوات البحث السريعة لتذكير المتحدث أو ربما لإثراء الحوار حول أن المسرح والسينما والأغنية واللوحة، كلها ليست ترفاً، بل هي أدوات لصياغة الوعي الجمعي، ومَن يمتلكها يستطيع أن يضع روايته أو سرديته في مقابل كل تلك الروايات التي كتبها الآخرون، ألم يقولوا إن التاريخ يكتبه المنتصر؟! ربما ليس دوما! التاريخ الآن تكتبه الكاميرا وما تنقله أكثر وقعاً وقوة من كل الدراسات والتقارير البحثية. الصورة تبقى تطارد الجلاد وتجد مكانها في قلب ضحيته.

تبرز صور من هوليوود وكتب ودراسات بحثت في الصورة لتصل إلى أنها ليست في مجملها بريئة، بل سلاح أو هو انحياز للقوة القائمة للرواية التي يريدها ذاك الواضع يده على الزر، وفي لحظة هو القادر على تفجير العالم ودماره، فيما هو في هوليوود البطل المنقذ. قديماً قالوا وما زالت مقولتهم صحيحة، مَن يملك المال والقوة يملك الصورة والرواية، لذلك فهوليوود لم تكن يوماً فضاءً لصناعة السينما، بل كانت ذراعاً ناعمة للسياسة الأميركية، تروج للروية التي تريد واشنطن للعالم أن يراها. فلم ننس صور الهندي الأميركي الأصلي ومن بعده العربي أو المسلم وكلهم شعوب عنيفة وبدائية لا تحب الحياة، بل تتقن الموت! وفعلت الشيء نفسه عن الإيرانيين بعد سقوط الشاه حليفهم فمن صور ساحرة لإيران بقصورها ونسائها الأنيقات وتاريخها العريق إلى صور لإيران «الشر»! لكن ليس كل الفن كتلة واحدة فهناك دائماً من قاوم ويقاوم وهناك فنانون وفنانات تمردوا على الصمت أو على الصورة النمطية التسطيحية، ودفعوا ربما ثمن لمواقفهم! نحن الآن في بلداننا العربية أمام واقع مشابه لهوليوود، حيث يضع الممول والمسيطر تصوره لواقعنا ويراه فقط ضمن صورة تسطيحية يريد لها البقاء فيما هي أبعد عن ذلك!

النماذج كثيرة لفنانين انتصروا لإنسانيتهم واستغلوا منصات مثل الأوسكار ومهرجان كان وغيرها للدفاع عن العدالة والمساواة والحق ضد الظلم والقتل والموت. معظمهم واجهوا كثيراً من الحملات من جانب الجيوش الإلكترونية الحاكمة والمسيطرة، ولكنهم كسبوا قلوب جماهيرهم ولم يخسروا إنسانيتهم.

اختلفت أدوات القتل من الصاروخ والرصاصة والقذيفة إلى الصورة فأصبحت السينما والمسرح والغناء هي ساحات الصراع الجديدة، مَن يملك الكاميرا يملك الذاكرة أو يصنعها ويعلبها كأي بضاعة مغرية. ومن يملك المنصة يملك السرد، ولهذا فلا يمكن قبول أن «الفن محايد»، في زمن الظلم والإبادة يصبح الفن مشاركاً في الجريمة، ويصبح الصمت موقفاً ملطخاً بكثير من أشلاء الجثث وسقوط القوانين التي تحكم البشرية. 

هناك من يردد، ليس المطلوب أن يكون للفنان موقف يسمونه «سياسي» وقد يكونون على حق، ولكن أليس من المفترض أن يكون الفنان مرهفاً وذا موقف إنساني؟ ألسنا حتى اليوم نعيد مشاهدة والاحتفال بأفلام مثل «الأرض» و»عودة الابن الضال» و»سواق الأتوبيس» و»شيء من الخوف» وغيرها، وهي ضمن أهم مئة فيلم عربي، وربما تنافس كثيراً من الأفلام العالمية؟ 

أن تكون فناناً في هذا الزمن يعني أن تقف كل يوم أمام سؤال صعب: لمن تُغني؟ لمن تكتب؟ لمن تبتسم أمام الكاميرا؟ المهرجانات السينمائية الكبرى لم تعد ساحات فنية فقط، بل فضاءات سياسية. حين ترفع ممثلة على السجادة الحمراء كوفية فلسطينية، أو يحمل مخرج لافتة «أوقفوا القتل»، فهو لا يقوم بلفتة رمزية، بل بفعل سياسي حقيقي، لأن الكاميرات التي تنقل صور الفساتين هي نفسها التي تخشى نقل صورة طفل ميت.

إن كلمة واحدة في مهرجان «كان» قد تساوي عشرات التقارير الحقوقية التي لا يقرؤها أحد. ولذلك، تسعى القوى المهيمنة دائماً إلى ضبط خطاب الفنانين، عبر التهديد بسحب العقود أو تشويه السمعة أو العزل المهني.

ومع ذلك، يختار البعض أن يخسر مكسباً ليكسب إنسانيته. تلك المفارقة هي ما يجعل الفنان، حين يلتزم بقضية إنسانية، يتجاوز دوره الفني ليصبح شاهداً في محكمة الضمير العالمي

* يُنَشر بالتزامن مع الشروق المصرية

back to top