غزة... لحظة انهيار الهيمنة الفكرية الغربية على الوعي العربي والإسلامي
• من الحربين العالميتين إلى القطب الواحد... قرنٌ من احتكار الوعي
منذ نهاية الحربين العالميتين، أعاد الغرب رسم خريطة العالم السياسية والفكرية عبر منظومة كاملة من السيطرة، من «سايكس–بيكو» إلى الأمم المتحدة، ومن الاستعمار العسكري إلى الهيمنة الثقافية.
لم يكن الغرب مجرَّد قوة مادية، بل أصبح مركزاً لتحديد معاني التقدُّم والعقلانية والإنسانية.
وبعد الحرب العالمية الثانية، خرجت الولايات المتحدة لتقود العالم، بما يُشبه التفويض التاريخي، مزيج من القوة العسكرية، والهيمنة الإعلامية والاقتصادية، ثم عبر أدوات أكثر نعومة: التعليم، والجامعات، والسينما، والمنظمات الدولية.
وحين انهار الاتحاد السوفياتي في مطلع التسعينيات، بدا وكأن العالم دخل «نهاية التاريخ»، كما بشَّر فوكوياما. فأُعلنت الليبرالية الغربية ديناً مدنياً جديداً، وصار يُنظر إلى كل بديلٍ على أنه تخلُّف أو تهديد.
في هذه اللحظة الفكرية الحرجة، انبهرت النُّخب العربية والإسلامية بالمشهد الجديد، فتبنَّى بعضهم هذا النموذج الغربي كما لو كان الحقيقة النهائية للحضارة الإنسانية. رأوا أن النهضة لا تكون إلا بالتماهي مع الغرب، حتى في منظومته الأخلاقية والاجتماعية، لا بمجرَّد الاستفادة من علمه وتقنيته. وهكذا أصبح معيار الرُّقي هو مقدار الاقتراب من النموذج الغربي، لا من قِيمنا الأصيلة.
لكن هذه المُسلَّمات بدأت تتآكل ببطء. فالإخفاقات في العراق وأفغانستان، ثم الأزمات المالية المتلاحقة، كشفت عن أن الغرب ليس معصوماً، ولا يملك وصفة خالدة.
في المقابل، ظهرت الكتلة الشرقية بثقة: الصين تنهض بخُطى حثيثة خارج النظام الليبرالي، وسنغافورة وكوريا وماليزيا وتايوان تبني نماذج متقدِّمة من دون أن تتخلَّى عن هويتها، واليابان تُوازن بين الحداثة والتقاليد. هكذا اتضح أن التقدُّم يمكن أن يُولد من رحم ثقافات مختلفة، وأن الغرب لم يعد المعيار الأوحد للحقيقة أو النهضة.
غزة... المرآة التي كشفت زيف التفوق الأخلاقي الغربي
ثم جاءت غزة لتقلب الموازين وتُسقط الأقنعة. لم تكن حرباً على مدينة مُحاصرة فحسب، بل كانت امتحاناً للضمير العالمي. ففي الوقت الذي رفعت العواصم الغربية شعارات حقوق الإنسان والعدالة، وقفت عاجزة أو متواطئة أمام مشهد قصف المستشفيات والمدارس والملاجئ.
بدا واضحاً أن القِيم التي تغنَّى بها الغرب لعقود كانت انتقائية ومشروطة بمصالحه السياسية. الإعلام الذي بكَى على أوكرانيا صمت أمام أطفال غزة، والجامعات التي أقامت الدنيا ضد العنصرية قَمعت طلابها حين تضامنوا مع فلسطين. لقد سقط الغرب أخلاقياً قبل أن يسقط سياسياً.
لكن ما حدث في غزة لم يقتصر على الفضح، بل حرَّك زلزالاً في الوعي العربي والإسلامي. عاد الإحساس بالعزة، لا من موقع القوة المادية، بل من موقع الحق والكرامة. أدركت الشعوب أن الضعف العسكري لا يعني الهزيمة الفكرية، وأن مَنْ يملك عدالة قضيته يملك مفاتيح المستقبل. لأول مرة منذ قرن تقريباً، رأينا تعاطفاً عالمياً غير مسبوق من شعوب الشرق والغرب مع المظلوم، لا مع المنتصر، وكأن الوعي الإنساني بدأ يستعيد توازنه من جديد.
الشرق يصعد والنموذج يتعدَّد: من بكين إلى كوالالمبور
لقد بات واضحاً اليوم أن مسار التقدُّم لم يعد محصوراً في طريق واحد. فبينما كان الغرب ينشغل بتبرير حروبه ونفاقه، كانت آسيا تُشيِّد مدارسها ومصانعها ومختبراتها. الصين صارت ثاني أكبر اقتصاد في العالم، وسنغافورة باتت مركزاً مالياً عالمياً بنظامٍ صارم يقوم على النزاهة والكفاءة، وماليزيا وكوريا جمعتا بين العلم والهوية من دون صراع. هذه النماذج تقدِّم دروساً للعرب والمسلمين، بأن النهضة ليست بالضرورة مرهونة بالانصهار في الغرب، بل بالقدرة على بناء نموذج ذاتي منفتح ومؤمن بخصوصيته في الوقت ذاته.
لذلك فإن حرب غزة لم تُحدث فقط اهتزازاً في صورة إسرائيل أو أميركا، بل كسرت احتكار الغرب للشرعية الأخلاقية والفكرية. لم يعد ممكناً لمثقف عربي أن يحدِّثنا عن «تفوق الحضارة الغربية» من دون أن يُسأل: أين كانت هذه الحضارة عندما قُصفت المستشفيات والملاجئ على الهواء مباشرة؟
إن ما بعد غزة ليس مجرَّد فصلٍ جديد في الصراع العربي– الإسرائيلي، بل بداية زمن حضاري مختلف، زمن يتشكَّل فيه وعي عربي وإسلامي أكثر ثقة وعُمقاً، يدرك أن العالم متعدِّد الأقطاب ومتعدِّد القيم. وعي لا يعادي الغرب، لكنه يرفض وصايته. وعي يستفيد من العلم والتقنية، من دون أن يبيع ضميره أو يذيب هويته.
قد لا تكون غزة قد غيَّرت ميزان القوى بعد، لكنها غيَّرت ما هو أخطر: ميزان الوعي. ومَنْ ينتصر في الوعي، لن يُهزم في التاريخ.
* وزير الصحة الأسبق