مذكرات رئيسة وزراء نيوزيلندا

نشر في 24-10-2025
آخر تحديث 23-10-2025 | 19:52
 د. محمد أمين الميداني

توجد عدة فنون لممارسة الحكم وهي تختلف باختلاف الأشخاص والبلدان والأزمنة. ويتولد لدينا دائما فضول للتعرف على تجربة من سبق له ممارسة الحكم، خصوصا إذا أراد أن يطلعنا على هذه التجربة ويروي لنا تفاصيلها لنستخلص منها العبر والدروس والأفكار.

 ويبرز كتاب مذكرات رئيسة وزراء نيوزيلندا السابقة السيدة جاسيندا أرديرن مثالاً جديداً لفن آخر لممارسة الحكم يثير الفضول والتساؤل والإعجاب أيضا، والذي صدرت ترجمته إلى الفرنسية صيف هذا العام.

 تابعت عبر شاشة إحدى محطات التلفزة الفرنسية لقاء مع السيدة جاسيندا يدور حول كتابها وتجربتها في الحكم. وأول ما تذكرته، وأنا أستمع لها، المشهد وهي تعانق بحرارة ومودة واحترام السيدات المسلمات من عائلات ضحايا العمل الإرهابي الفظيع الذي وقع في مدينة تشرشل كرايست تشيرش في جنوب نيوزيلندا حين أقدم أحد المتطرفين والمتعصبين ضد الإسلام والمسلمين بتاريخ 15/3/2019، على قتل 51 مسلما وأصاب العشرات في مسجدين في هذه المدينة. وكان أن هرعت السيدة جاسيندا وكانت لا تزال رئيسة وزراء هذا البلد لتقديم التعازي إلى عائلات ضحايا هذا العمل الإرهابي الشنيع معلنة تضامنها معهم وإدانتها لهذا العمل وتعاطفها مع أهل الضحايا وتفهمها للمأساة التي حلت بهم ومدى كبر مصابهم. 

مرت في مخيلتي هذه الصور وأنا أتابع مقابلتها التلفزيونية، وكأنها تريد أن تقول هذا فن آخر للحكم الذي يهتم مباشرة وبعفوية بمصائب أفراد الشعب ويحرص على التضامن معهم حتى ولو لم نشترك معهم في الدين أو الأصل أو اللغة، لأن الجميع بغض النظر عن أي تمييز جزء من الإنسانية البشرية. وكانت قد تمت محاكمة القاتل وحُكم عليه عام 2020 بتهمة القتل العمد والشروع في القتل بالسجن المؤبد من دون أن يستفيد من أي عفو.

 ومرت في ذهني أيضا، وهي تتحدث عن تجربتها، صورها وهي تحتضن ابنتها في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 2018، ولعلها تريد القول إنه لا يجب أن تطغى واجبات العمل السياسي على الواجبات العائلية وسيكون جيدا لو استطعنا الجمع بين هذه الواجبات المتنوعة.

 يضم كتاب مذكراتها 30 فصلاً لا تحمل عناوين، ولكنها تسرد جوانب من حياتها الشخصية والعائلية والمهنية. وقد أوضحت فيه كيف أن دخولها للبرلمان كان مصادفة، وكيف كان خوفها من الفشل ومن أن تخيب ظن الآخر بها، إلى جانب احساسها الفعلي والصادق بمسؤولياتها، وكيف أن الأمور تطورت لتجد نفسها مساعدة لرئيس حزبها حزب العمال، ومن ثم رئيسة للحزب ولاحقا رئيسة للوزراء عام 2017، وكان عمرها 37 عاما لتكون وقتها أصغر رئيس للوزراء يتم اختياره في نيوزيلندا.

 ولعل آخر ما أرادت أن توضحه السيدة جاسيندا في مذكراتها هو كيف يجب أن يختار السياسي ورجل الدولة الوقت المناسب والظرف الملائم لترك السلطة والتخلي عن الحكم... وهذا ما فعلته حين أعلنت في يناير 2023 أنها ستتنحى عن الحكم، موضحة أنها تريد أن تتفرغ لعائلتها وحياتها الخاصة والتدريس في الجامعات، وهذا أيضا فن من فنون الحكم قليلاً ما نراه في مسيرة السياسيين والحكام في مختلف الدول والقارات.

 

* أكاديمي وكاتب سوري مقيم في فرنسا

back to top