تعز... ساحة للاغتيالات

نشر في 24-10-2025
آخر تحديث 23-10-2025 | 19:47
 محمد علي ثامر

خلال الأيام الماضية شهدت مدينة تعز جريمةً من أبشع الجرائم التي تُجرِّمها الشَّرائع السَّماوية، وتنبذها التقاليد والأعراف اليمانية، ألا وهي جريمة الاغتيال/ الإعدام الميداني للأستاذة افتهان المشهري، المديرة التنفيذية لصندوق النظافة والتحسين بالمحافظة، ليمثل ذلك مفتاحاً لسرد مئات القصص المُرعبة التي عاشتها وتعيشها هذه المدينة، والتي أصبحت مسرحاً لكل قاتلٍ رجيم، ودونما ردعٍ أو عقابٍ يَلحق بهم، بل يحدث العكس تماماً، إذ أصبحوا في حماية الدَّولة ذاتها! 

قد يتساءل البعض: هل تحمي الدولة اليمنية القتلة والمجرمين؟! الجواب: نعم، مع الأسف، وأنهم– أحياناً– من أفراد وضُباط جيشها!

يأتي ذلك خلال الحرب الأهلية اليمنية (2014– 2025م)، التي كانت مدينة تعز ميداناً كبيراً لها، فتعرَّضت، ولا تزال، لحربٍ شعواء طرفاها الحوثيون، والحكومة الشَّرعية، إضافة إلى حصارٍ طويل، ودماء تسيل في الأزقة، وسُلطة متعددة الرؤوس تتنازعها البنادق، وتتناهشها القذائف المختلفة النوع والكم، لذلك لجأت الحكومة لاستقطاب العديد من شباب إحدى مناطقها، وهي منطقة المخلاف «شرعب»، وشكَّلت لواءً عسكرياً، اللواء (170 دفاع جوي)، ليُصبح الصَّوت الأعلى هو صوت التَّعصب المناطقي، والشِّعار الأقدس للانتماء الحزبي، فلا صوت يعلو على صوت القبيلة والجماعة!

وبالتالي لا يجرؤ كائن مَنْ كان على التنديد بهم، أو التشنيع بجرائمهم. وعندها استمر مسلسل القتل والخطف، أصبحت تعز نفسها ميداناً لصنوف الاغتيالات وشتى الانتهاكات، لتبلغ المئات، وربما الآلاف، من الجرائم، لتتوالى بعدها المناشدات والمطالبات، والوصول لتنفيذ الاعتصامات أمام مبنى المحافظة، من أجل مطالبة قيادتها بإنفاذ القانون، وإحقاق الحق، وحماية المدنيين من استغلال أولئك المجرمين وداعميهم، المستهترين بحياة الناس، والمتعطشين للدماء والقتل والنهب والسلب، ولا مُجيب حتى هذه الساعة!

وصحيحٌ أنها- أي تعز- لم تكن يوماً غريبةً عن السِّياسة، لكنها عُرفت كيف تُوازنها بالمدنية والثقافة عبر مئات السنين، لكن مع هذه الحرب انهارت هذه المعادلة تماماً، فتراجع دورها النهضوي، وخَفَتَ بريق نشاطها الثقافي، الأمر الذي أحدث تحوُّلاً مسَّ بنية الوعي الاجتماعي فيها، لينشأ جيلٌ كاملٌ وهو يُتقن لغة السِّلاح أكثر من لُغة الكتاب، وأصبح البقاء على قيد الحياة أولويةً تتقدَّم على أيُّ فعلٍ ثقافي، فاختفت الفعاليات الأدبية والفنية تقريباً، أو تحوَّلت إلى مبادرات فرديةٍ محدودة، فيما تصاعدت مُعدَّلات الجريمة المُنظَّمة، في مشهدٍ يُعبِّر عن انهيار العقد الاجتماعي الذي كان يُميز هذه المدينة.

في مخيلة أيُّ يمنيٍّ، مدينة تعز هي تلك المدينة الحالمة، الغافية على سفح جبل صبر، المُلقَّبة ب «العاصمة الثقافية لليمن»، مدينة تفيض بالحياة المدنية، بالمكتبات والمقاهي الأدبية، بالجامعات والمنتديات الفكرية، وبالحركات المسرحية والفنية التي جعلت منها مختبراً دائماً للتنوير والتطوير والتثوير. فكما كانت موطناً لثوار 26 سبتمبر و14 أكتوبر، كانت أيضاً الجاذبة للحالمين بالعلم والمعرفة، وصدَّرت رموزاً في الأدب والسِّياسة والفِكر، وكانت تُعانق الكُتب والموسيقى والفنون. 

لكن هذا المشهد تحوَّل فيها من مدينةٍ تنبض بالثقافة إلى ساحة صراعٍ تتناوب عليها الميليشيات والقتلة والمجرمون، حيث صار صوت الرصاص يعلو على صوت القصيدة، وهيمنة السِّلاح تطغى على قِيم التَّعايش، ليترك لنا سؤالاً حقيقياً: أين أنتِ يا تعز؟!

* صحافي يمني

back to top