رويديات: طَبيب يُداوي النّاس وهو عَليل!
منذ أن كان اسم لبنان يكتب على أطراف الخرائط، يعيش أبناؤه مفارقة غريبة: ينجحون في كل أرض إلا أرضهم، ويبدعون في بناء الأوطان البعيدة، لكنهم يعجزون عن ترميم وطنهم الصغير.
منذ فجر الكيان اللبناني، وقبل أنْ يعلن «لبنان الكبير»، غادره أبناؤه يحملون في قلوبهم نارا لا تطفأ، وقلما لا يمل. حمل جبران خليل جبران في غربته هم الشرق كله، وكتب لوطنه رسائل عشق واحتجاج وحكمة، ورفيقه ميخائيل نعيمة صاغ رؤى الإصلاح والتجديد، كما فعل شارل مالك في منابر الأمم متحدثا باسم الإنسانية والكرامة.
توالت الأجيال، فظهر أمين معلوف يكتب للعالم عن الهوية الممزقة، وغسان سلامة يحمل على عاتقه ملفات الأزمات في العراق وليبيا. وما بين هؤلاء وهؤلاء، خرج الآلاف من الأطباء والمهندسين والعلماء، يديرون مؤسسات عالمية، ويستشارون في رسم سياسات لدول كبرى.
ومن بين هؤلاء المبدعين نذكر بعضا من علماء هذا الوطن الصغير الذين لمعوا في سماء العلم، فكانوا منارات في ميادين البحث والاكتشاف أمثال: د. شارل العشي الذي قاد مختبر الدفع النفاث في «ناسا» د. مصطفى شاهين رائد فيزياء الغلاف الجوي ومراقب الأرض من الفضاء؛ د. جورج حلو الذي قرأ ضوء المجرات واكتشف كواكب تشبهنا؛ ود. مايا نصر، ابنة الشوف، التي حولت هواء المريخ إلى أكسجين. إنهم صورة لبنان الذي لا يزال، رغم كل العلل يداوي وجه الإنسانية بذكائه وإبداعه.
ولكنْ حين يعود البصر إلى لبنان، تتكسر الصورة على صخرة الواقع؛ واقع يطفئ الضوء كلما أضاءت فكرة، ويخرس الصوت كلما نطق بالعقل.
وكم من رجل في هذا الوطن دفع حياته ثمنا لمحاولته الإصلاح؛ من زعماء وسياسيين وإعلاميين ومواطنين أبرياء. وكم من حروب وقعت، وأيام صعبة مرت على هذا الوطن الجميل وشعبه المحب للحياة! فكأن الإصلاح في لبنان خط بالدم، وكأن من يحب هذا الوطن حقا يدان بحبه.
فهلْ هي لعنة الجغرافيا التي ضاقت بما تسع، أمْ لعنة الطائفية التي وسعت كل ما لا يحتمل؟
أمْ أنها الاثنتان معا، تتعانقان منذ مئة عام لتبقيا اللبناني في دائرة العجز، مهما اتسعت مداركه وعلت مناصبه؟
لقد صار اللبناني أشبه بطبيب يداوي الناس وهو عليل، يشخص أدق الأمراض في أجساد الآخرين، فيما وطنه يئن منذ قرن ولا يجد من يصف له الدواء.
ومع ذلك، ما زال في القلب شيء من الأمل؛ فكما انْتصر اللبناني ونجح في غربته، سيأتي يوم يشفى فيه الوطن من علله الداخلية، على يدي أبنائه، بالإرادة الصادقة والعمل المتواصل، وبكل قلب مخلص يرفع راية لبنان فوق كل خلاف.