«اشترِ عند الهبوط»... هل تلاشت القاعدة الذهبية للأسواق؟
• في فترات التقلب تبرز الشركات ذات الأساس المالي والسيولة الجيدة ومستويات الدين المنخفضة
على مدى عقود، كانت العبارة الشهيرة «اشتر عند الهبوط» بمنزلة البوصلة الذهبية للمستثمرين في عالم أسواق المال، فهي قاعدة بسيطة وفعالة تعني أن كل تراجع في الأسعار هو فرصة سانحة قبل صعودٍ جديد.
لكن ما كان يعد قانونا شبه ثابت في الأسواق، بدأ اليوم يواجه اختبارا صعبا وسط عالم تغيرت فيه معدلات الفائدة، وتبدلت فيه أنماط السيولة، وتزايد فيه حضور المتداولين الأفراد، لتُطرح التساؤلات: هل ما زالت هذه القاعدة صالحة كما كانت؟ أم أن زمنها الذهبي انتهى؟
ومع ظهور العديد من الأسباب التي جعلت تنفيذ مبدأ الشراء عند الهبوط أصعب، لا تزال تلك الاستراتيجية مجدية أحيانا، لذا هناك حاجة لانتهاج استراتيجية أكثر حكمة إذا أراد المستثمر التعامل مع فرص الهبوط.
صعوبة التطبيق
في الماضي، كانت الأسواق المالية تميل إلى مكافأة المستثمرين الذين يستغلون فترات التراجع المؤقتة للشراء، إذ كان كل هبوط يعتبر فرصة سانحة قبل صعودٍ جديد، لكن هذه القاعدة التي بدت شبه مضمونة بدأت تتآكل تدريجيا في السنوات الأخيرة.
ومع تغير البيئة النقدية والمالية عالميا، وتزايد الترابط بين الأسواق، وتحول طبيعة المشاركين أنفسهم، ظهرت عدة عوامل جعلت استراتيجية ناجحة مثل «الشراء عند الهبوط» أقل يقينا وأكثر خطورة من ذي قبل.
فعلى سبيل المثال، عندما تكون أسعار الفائدة منخفضة جدا، يصبح العائد من السندات محدودا، ما يدفع المستثمرين إلى تفضيل الأسهم حتى في ظل اضطرابات مؤقتة في الأرباح.
لكن بيئة الفائدة المرتفعة التي شهدها العالم منذ عام 2022 غيّرت هذه المعادلة، حيث ارتفعت تكلفة الفرصة البديلة بشكل واضح. وأصبح المستثمرون أكثر حذرا عند تقييم الأصول، لأن ارتفاع الفائدة يعني أن القيمة الحالية لأي أرباح مستقبلية تصبح أقل، مما يقلل من جاذبية الأسهم.
هذا التحول جعل الأسواق أكثر حساسية تجاه أي تراجع في الأرباح أو النظرة المستقبلية للشركات، فمجرد إشارة سلبية باتت كافية لدفع الأسعار للهبوط لفترات أطول، مما يطيل من مراحل التصحيح ويبطئ وتيرة التعافي.
وتُظهر تجربة عام 2022 هذا بوضوح، فمع موجة الزيادات المتتالية في أسعار الفائدة بالولايات المتحدة، تراجع مؤشر إس آند بي بنحو 25% من أعلى مستوياته في بداية العام حتى قاع أكتوبر، في عملية إعادة تسعير واسعة وطويلة الأمد. في الوقت نفسه، أصبحت السيولة في الأسواق أكثر هشاشة، بينما ازداد الترابط بين المؤسسات المالية والأصول المختلفة بشكل غير مسبوق، هذا التداخل جعل العدوى المالية تنتشر بسرعة من قطاع لآخر، حتى لو بدأ الخلل في زاوية محدودة من السوق.
أحد أبرز الأمثلة على ذلك أزمة البنوك الإقليمية الأميركية عام 2023، حين انهار بنك فيرست ريبابليك بعد موجة من سحب الودائع وانخفاض الثقة، فالبنك الذي كان يمتلك أصولا بنحو 213 مليار دولار في نهاية 2022، أُغلق رسميا في أول مايو 2023، بعد أن فشل في استعادة توازنه، لتتحول أزمة سيولة محدودة إلى انهيار شامل انتهى باستحواذ جي بي مورغان عليه.
هذه الحادثة توضح أن الانخفاضات في أسعار بعض الأسهم خصوصا في القطاعات المالية الحساسة قد تخفي وراءها هشاشة هيكلية لا يمكن تجاوزها بمجرد تطبيق قاعدة الشراء عند الهبوط.
وإلى جانب العوامل الاقتصادية والمؤسسية، برز عنصر جديد يغير ديناميكيات السوق، وهو المشاركة المتزايدة للمتداولين الأفراد، حيث أصبحت قراراتهم خاصة في فترات التذبذب الحاد قادرة على تحريك الأسعار بشكل فوري عبر موجات شراء جماعية. لذلك، لم يعد الهبوط إشارة واضحة للشراء كما في السابق، بل قد يكون بداية لسلسلة من الارتفاعات والانخفاضات المتلاحقة، يصعب على المستثمر العادي التنبؤ بنهايتها.
السياق مهم
فكرة «الشراء عند الهبوط» لا تنجح دائما، بل تعتمد بدرجة كبيرة على طبيعة الحدث الذي سبب الانخفاض ومدى سرعة تدخل السياسات الاقتصادية، فأحيانا يكون الهبوط مؤقتا ويليه انتعاش قوي، وأحيانا أخرى يُعبّر عن إعادة تقييم شاملة لا تزول بسهولة، ففي مارس 2020، حين اجتاحت جائحة كوفيد الأسواق العالمية، فقد مؤشر إس آند بي 500 نحو 26.7% من قيمته خلال أسابيع قليلة، لكن هذا التراجع تحوّل سريعا إلى صعود قوي بفضل حزم التحفيز المالي والنقدي الضخمة التي ضختها الحكومات والبنوك المركزية، ونجح المؤشر في أن ينهي العام نفسه عند مستويات أعلى من ذروته السابقة، لتشكل حالة نموذجية لنجاح «الشراء عند الهبوط»، إذ جاء الانخفاض نتيجة صدمة خارجية مفاجئة، وتبعه تدخل سياسي ونقدي أعاد الثقة للأسواق بسرعة.
أما في الحالات التي يكون فيها التراجع ناتجا عن تغير جوهري في تقييمات الشركات أو في أساسيات السوق، فإن الصورة تختلف تماما، فحين يعكس الانخفاض ضعفا في النمو أو ضغطا على الأرباح أو ارتفاعا في معدلات الخصم، فإن الارتداد عادة يكون محدودا أو بطيئا، مثال ذلك ما حدث عام 2022، حين قادت موجة رفع أسعار الفائدة الأميركية إلى إعادة تسعير شاملة للأسهم، ولم تشهد الأسواق ارتدادا سريعا كما حدث في أزمات سابقة ذات طابع مؤقت.
مثال آخر هو بنك باك ويست بانكورب، الذي واجه عام 2023 تراجعا حادا في سعر سهمه تجاوز 50% خلال فترة قصيرة، بعد أن أعلن عن بحثه خيارات استراتيجية في ظل تراجع الثقة في البنوك الإقليمية الأميركية. هذه الحادثة تظهر بوضوح أن الهبوط في الأسعار لا يكون دائما فرصة شراء، فقد يخفي خلفه مشكلات مالية أو تشغيلية عميقة تجعل العودة صعبة أو مستحيلة.
التكيف مع الاستراتيجية
في بيئة الأسواق الحالية، لم يعد نهج «الشراء عند كل انخفاض» مناسبا كما كان في العقد الماضي. اليوم، لا يكفي مجرد رصد انخفاض حاد للدخول في السوق، بل يجب فهم طبيعة الهبوط وأسبابه قبل اتخاذ القرار، ويشكل التمييز بين الهبوط المؤقت الناتج عن الذعر أو خبر محدود الأثر، وبين الهبوط الذي يعكس إعادة تقييم عميقة في هيكل السوق الخطوة الأولى، ففي الحالة الأولى، يمكن التفكير في دخول تدريجي ومدروس، بينما في الثانية يكون التريث أو الدخول البطيء أكثر حكمة، حيث أظهرت السنوات الأخيرة أن التسرع في الشراء دون فهم طبيعة التراجع قد يحوّل «الفرصة» إلى خسارة.
ومن الأفضل ألا يعتمد المستثمر على الشراء التلقائي بمجرد أن تنخفض الأسعار بنسبة معينة، بل أن يتبع أسلوبا مرنا ومدروسا يقوم على توزيع المشتريات على مراحل مع كل تراجع إضافي في السعر.
هذا النهج يساعد على تقليل المخاطر وتعديل متوسط كلفة الشراء مع مرور الوقت، بدلا من الدخول في السوق دفعة واحدة، كما يستحسن أن يوازن المستثمر حجم استثماره في كل أصل، بحيث لا يؤدي تراجع سهم واحد إلى التأثير الكبير على المحفظة كلها. وفي فترات التقلب، تبرز أهمية اختيار الشركات ذات الأساس المالي القوي، والسيولة الجيدة، ومستويات الدين المنخفضة، لأنها عادة ما تكون أكثر قدرة على الصمود وتجاوز فترات الهبوط مقارنةً بغيرها.
كما أن الاحتفاظ بجزء من السيولة يمنح المستثمر مرونة لاقتناص الفرص أو تحمّل فترات التذبذب الطويلة، مع ضرورة التفرقة بين الشراء القائم على تحليل معمّق ورؤية طويلة الأجل، وبين الشراء التكتيكي قصير الأجل المعتمد على تحركات مؤقتة في الأسعار. في نهاية المطاف، عبارة «اشتر عند كل هبوط» لم تمت، لكنها تغيرت إلى نسخة أكثر حكمة، فالمستثمر الذكي لا يندفع وراء الانخفاضات السريعة، بل يقرأ ما وراءها ثم يبني قراراته على أساس التحليل. وفي النهاية، لا يُقاس النجاح في الأسواق بمن يشتري أسرع عند الهبوط، بل بمن يفهم أولا لماذا هبطت.