وانكسرت المرايا... عن خسارة الأصدقاء أتحدث
المشاهد تتفاعل وأهل غزة في الانتظار. قفزت تلك المقابلة من حيث لا أعرف لممثل هوليوودي موهوب بشكل استثنائي، وهو يجيب عن سؤال، وكثير من الأسى أو ربما الخيبة: «نعم، لقد خسرت الكثير من الأصدقاء خلال العامين المنصرمين». وراح يصف ما الذي حدث له، وبدا في تلك اللحظة يردد كلاماً يفهمه الكثيرون منا رغم محاولتهم لتفادي الإجابة.
هناك خسائر تراكمت فوق وجع الصور القادمة من غزة منذ السابع من أكتوبر، فوق القتل وتقطيع الرؤوس والبطش وبتر الأطراف والدم، كثيرٌ منه، الذي سقى الأرض الطاهرة بنزيف أبنائها الصادقين في عشقها.
في نفس تلك اللحظة التي اشتعلت فيها صور الأطفال تحت الركام، والنساء الشامخات فوق الموت والدمار، والشباب المحترقين بين الأنقاض، بدأ اختبار إنسانيتنا ربما عبر كثير من الأشياء البسيطة: كلمة على صفحة، صورة على حساب شخصي، تعليق في جلسة خاصة أو عامة.
هنا وهناك كانت المرايا التي تعكس الوجوه من حولنا تنكسر واحدة تلو الأخرى، تكشف ما وراء الأقنعة التي طالما خدعتنا بتزيين الكلمات أو دفء الصحبة اللحظية.
بعضهم صمت، ربما خوفاً أو حتى استسلاماً، وهو يستمع لمسؤوليه وحكامه يرددون عليه: «كن واقعياً، هم أقوى»، تلك الكذبة التي غرسوها في العقول عبر منابرهم المنتشرة كالذباب! وهناك من راح يبرر للقاتل أو يعبر عن حزنه وأساه لأنه لم ينتصر ويخلص عليهم جميعاً... نعم، كلهم، يعني كلهم كما قال ذاك من خلف تلك الشاشة المشبوهة، ليس فقط المقاومين، بل كل من يقف معهم أو حتى يكون في ظلهم! وراح يبرر للقاتل ويجد له ولحرب إبادته ومشروعه التوسعي الكثير من الأعذار! تختصر في كلمتين: «نحن السبب»!
ليس هذا انقساماً في التوجه السياسي أو في وجهات النظر والرأي، أو حتى فيما يسمى بالواقعية السياسية، لم يكن كل ذلك، بل كان آخر امتحان صعب لإنسانيتنا جميعاً، ليس فقط العرب والمسلمين والمسيحيين واليهود الحق، بل كل البشرية.
لا يهم ما يقوله المحلل السياسي، أو هكذا يحب أن يصف نفسه، أو حتى المحلل العسكري، بل الأهم من هم أقرب لنا، أولئك الذين سقطوا كحجر الشطرنج واحداً خلف الآخر. تلك الانكسارات الصغيرة التي لا يراها الآخرون.
رسائل لم تعد تصل، صداقات أُغلقت أبوابها، مواعيد اعتذرنا عنها دون أن نبرر، لقاءات ملغاة لأننا لم نعد قادرين على الجلوس مع من يبررون قتل أطفالنا أو يعتبرونه «تفصيلاً ثانوياً» في حرب أكبر. كل تلك التفاصيل صارت تشكّل جداراً بيننا وبينهم، جداراً من نار ودمع وصور لا تُمحى.
لم نخسرهم لأننا نحب الخصام، بل خسرناهم لأنهم تخلّوا عن أبسط اختبار للضمير. إنسانيتنا ليست خياراً انتقائياً نمارسه حيث نشاء، بل هي معيار وجودنا في هذا العالم.
حين سقطت غزة تحت الركام، سقطت معها أقنعة كثيرة. فجأة، صرنا نعيد قراءة كلمات قديمة قالها أصدقاء في مناسبات سابقة، ونفهمها الآن بشكل مختلف. كم من نكتة مرّت بلا تعليق، أو تبرير قاسٍ لمأساة ما، أو استهزاء بشعار الحرية، لم نلتفت إليه إلا حين صار الدم الفلسطيني معياراً وحيداً للانحياز.
في النهاية، لم يعد السؤال: كم صديقاً خسرنا؟ بل صار: كم صديقاً حقيقياً كسبنا؟ لقد كانت المرايا تنكسر، نعم، لكن خلف كل مرآة مكسورة كان هناك ضوء صغير يلمع، يذكّرنا أن الحقيقة لا تضيع، وأن الدم لا يُمحى، وأن من خسرناه لم يكن يستحق أن يبقى.
لقد علّمنا هذا الطوفان أن الصداقة ليست ذاكرة ولا صورة قديمة، بل هي موقف في لحظة الحقيقة. من لم يرَ دم أطفال غزة كما يرى دم أطفاله، لم يعد قادرًا أن يكون صديقًا لنا. ومن اختار أن يقول كلمة حق رغم الخسائر، صار أقرب إلينا من أي صداقة عمرها سنوات.
ومن يسكن في تلك البقعة البعيدة مثل كولومبيا ويبكي على بكاء أهلنا وينتصر لهم، صار هو الأقرب من الجار وصديق العمر وكثير من الأقارب.
انكسرت المرايا، نعم، لكنها حين تكسّرت كشفت وجوهنا الحقيقية، وأعادت إلينا قدرتنا على أن ننظر إلى أنفسنا بلا خوف ولا خجل. نحن اليوم ربما أوضح، أصدق، وأقوى، لأننا تعلّمنا أن الصداقة الحقيقية تُبنى على الضمير، لا على الصور والذكريات.
* يُنشَر بالتزامن مع «الشروق» المصرية