الضمير... حين يحرس الغائبون
في دهاليز النفس، حيث لا شرطيٌّ ولا قاضٍ، يعيشُ في كلّ إنسانٍ حارسٌ خفيّ... اسمه الضمير. ليس من لحمٍ ولا من دم، بل من نورٍ وحياء، إذا أضاءَ أراح، وإذا انطفأَ أباح. كانت العرب تقول في زمنٍ لم تُكتب فيه القوانين بعد: «أتزني الحرّة؟!» كأنهم يقولون: كيف للكرامة أن تخون نفسها؟ وكيف للجبل أن ينحني؟ فـ«الحرّة» هنا ليست امرأةً فحسب، بل رمزٌ لإنسانٍ يملك حرية الامتناع، حريةَ أن يقول «لا» حين يتساقط الجميع بنعم.
إنها أنفةُ الروح التي تمنع الجسد من السقوط، وحياءُ القلب الذي يُغلق أبواب الشر قبل أن تُغلقها الشرطة.
ذلك الحياء الفطريّ هو أولُ ضوءٍ للضمير، يولد مع الإنسان كما تولد النبضة في قلبه. فإذا رُبّي على الصدق، اشتدّ نوره، وإذا عاش بين الخداع والمال الحرام، انطفأ شيئاً فشيئاً حتى لا يرى في الظلام إلا نفسه.
وللضمير وجوهٌ أخرى، أحدها ذلك الصوت العجيب الذي يقول: «والله، إن درى فلان ليفعلن بي كذا وكذا». عجيبٌ أن يخاف المرءُ من «فلان»، وقد مضى فلان إلى رحمة الله منذ سنين! لكنّها الحقيقة العميقة: أن بعض الناس لا يموتون فينا، بل يسكنوننا كصوتٍ خافتٍ من خشيةٍ ومحبةٍ وهيبة.
ذاك الأب الذي علّم ابنه معنى الرجولة، تظلّ ملامحه تتراءى في وجه الليل، فكلّما همّ الابن بخطأ، سمع صوته يقول: «استحِ يا ولدي». وذاك المعلم، وتلك الأم، وتلك القدوة، يبقون كأنهم أوتادٌ في خيمة الضمير، تحفظها من أن تقتلعها ريح الشهوة أو الطمع.
الضمير إذاً ليس صوتاً منفرداً، بل جوقةُ أصواتٍ من ماضينا الجميل: أب صادق، وأم تقية، وموقف أبيض لم ننسه. وهو أيضاً حضور الغائبين الذين ما زالوا يربّوننا بعد رحيلهم. فمن كانت «الحرّة» في داخله يقظة، ومن ظلّ يسمع صوت «فلان» ولو من تحت التراب، فلن يحتاج إلى كاميرا تُراقبه، ولا قانون يُلزمه. لأنّ الضمير حين يحرس، يغني عن الحراسة. ولأنّ الحياء إذا عاش في القلب، أغنى عن ألف قيدٍ وسجن.
يا ليتنا نُعيد لتربيتنا معنى «الحرّة لا تزني»، ونُحيي في أولادنا ذكرى من يخافون الصوت العجيب حتى بعد موته. فمن ضيّع الضمير، ضيّع إنسانيته، ومن جعل في قلبه حرّةً وفلاناً، فقد جعل الله له حرزاً من الزلل وإن خلا بنفسه.
دمتم بود