بدون مجاملة: تكاليف الحياة
في زمن داحس والغبراء نظَّم زهير بن أبي سُلمى معلقته الشهيرة ببيتها الأشهر
سَئِمتُ تكاليفَ الحياةِ ومن يَعش
ثَمانينَ حَولاً لا أبا لَك يَسأمِ
وكُنت في زمنٍ سابق قد اقتبسته بتصرُّف، فقلت:
سئمتُ تكاليفَ الحياة ومن يَعِش
ثمانية عشر حَولاَ لا أبا لَكَ يسأم!
كان والدي- حفظه الله- يضحك، لأنني حينها لم أر أعباء الحياة بعد، ويُوجهني للتفاؤل الدائم.
أعباء الحياة مسألة حتمية، موجودة بوجود الإنسان على هذه الأرض، تختلف باختلاف المرحلة، تزداد، تتراكم، تخف، نمنح أنفسنا «بريك»، لكنها لا تنتهي.
أحاول باستمرار فك التشابك بين الأمانات والمسؤوليات، الرغبات والأهداف، بين الحماس، ثم الفتور، السعي والعقبات، التخطيط والتأجيل، التقصير، السهو- وكلنا نسهو- وسوء التقدير، الطموح والواقع، الأحداث العارضة، وتلك غير المتوقعة، تغيير الطريقة، وربما الغاية بكليتها. أبدو في ترتيب هذه الفقرة قد قدَّمت مُلخصاً عن مواجهات كل فرد، أحياً كان أم ميتاً.
ومن تحديات وقتنا الحاضر، أننا نعيش في «عصر السرعة»، الذي جلب لنا إرهاقاً «مُستحدثاً»، في التغيُّر المُتسارع، وكثرة المشتتات، والافتتان بالمظاهر والشكليات، والانشغال بالكماليات والتكالب عليها.
لم يعد للعمل الجاد إجلال، وصارت الكمية أهم من الجودة. انتشرت التفاهة والسطحية. فقد الناس تأنيهم، وضاقت صدورهم، وما أسرع شعورهم بالملل! حرموا أنفسهم من الوتيرة الطبيعية للحياة «بأن كل شيء له وقته» مع ضياع التركيز، وأن «تعيش اللحظة»، وتتواجد جسدياً وفكرياً وعاطفياً. كل ذلك مُنهك للدماغ والجسد والروح، لأنك تريد كل شيء مقابل أقل جهد، وفي أقصر وقت! وهذا منافٍ للطبيعة، وقاتل للمتعة، ومدمِّر للنجاح، بل إننا لا نكاد نُكمل ما بدأناه، ونتنازل عن مطالبنا، ونتخلَّى عن أحلامنا، ونُلغي مشاريعنا، ونغيِّر أهدافنا، لأن الصبر سُرعان ما ينفد! الصبر قيمة عظيمة، وخلق كريم، وأدب ومقام رفيع، وهو بحد ذاته عبادة وانتصار، أأدركت مقصدك أم انقطع الطريق.
ومن محاولات الهروب من تكاليف الحياة انصرافنا إلى الأجهزة والبرامج التي يتبدَّد الوقت أمامها، ويسهل إدمانها، وتأثيرها في تشويه المفاهيم والتهاون في أمور الأخلاق والذوقيات، وتحوُّلها أحياناً من وسائل تواصل إلى ساحات معارك!
إن الحياة، بواجباتها وهمومها، أمر مؤكد لا مفر منه ولا اختباء. وكل ما نمرُّ به ونختبره جزء من الرحلة التي تشكِّل مسيرتنا وشخصياتنا وأثرنا. كل موقف مقدَّر، لا وجود للصدف! ولكل تجربة تفاصيل، سوابق، ولواحق، ومعانٍ، ودروس.
منذ القرون الأولى والإنسان يكدح، يفكر، ويقلق، يتحمَّل المشاق، ويجزع، يعمل، ويصبر، ويستبشر، ويظفر، حتى هذا القرن... حتى الذي يليه... حتى ينتهي الزمن.