حين يحتفل العالم بالصحة النفسية وتئنُّ غزة تحت الركام والتطهير العرقي
سنوياً، وفي العاشر من أكتوبر، يحتفل العالم أجمع باليوم العالمي للصحة النفسية. وقد تم اختيار شعار هذا العام «الصحة النفسية في حالات الطوارئ الإنسانية»، كتذكيرٍ قاطع وصرخة مدوية لدعم المتضررين من الأزمات والكوارث والحروب في السودان، وسورية، واليمن، وليبيا وغيرها.
ويأتي الاحتفال مُحمَّلاً بثقل مأساة غزة، حيث تحوَّل القطاع إلى مقبرةٍ جماعية للأرواح والأحلام، فقد تجاوز عدد الشهداء والمفقودين 76 ألفاً، بينهم 20 ألف طفل سطَّروا بأرواحهم ودمائهم الطاهرة مشهداً إنسانياً سوف يكتبه التاريخ بحروفٍ من ذهب.
انتصر الدم على السيف
مما يثلج الصدور أن هذه الدماء الطاهرة انتصرت على سيوف واحد من أقوى جيوش العالم، بتضحياتها وإيمانها. وكلنا أمل ألا تخرق إسرائيل اتفاقياتها، كعادتها، وأن تضع الحرب أوزارها. لقد أثبتت غزة للعالم مجدداً أن الدم يمكن أن ينتصر على السيف، وأن الإيمان والكرامة أقوى من الدبابات والطائرات. فبدماء الشهداء وتضحيات المقاومين، انتصر الضعفاء على واحدٍ من أقوى جيوش العالم، وكتبت غزة ملحمةً جديدةً من البطولة والعزة.
وجع العالم: واحد من كل ثمانية مريض نفسياً
تشير تقارير الصحة العالمية إلى أن واحداً من كل ثمانية أشخاص في العالم يعاني اضطراباً نفسياً، أي نحو 970 مليون إنسان. منهم 301 مليون مصابون باضطرابات القلق، و280 مليوناً بالاكتئاب، و40 مليوناً بالاضطراب الثنائي القطب، و24 مليوناً بالفصام. هذه الأرقام تعني أن العالم يعيش وباءً نفسياً صامتاً لا تقل خطورته عن أي جائحة بيولوجية. لكن في غزة، لا يحتاج الأمر إلى دراسات أو تشخيصات، فكل وجه هناك هو تقرير ميداني، وكل بيت ملفّ مفتوح في الطب النفسي الإنساني.
القلق المزمن: حين يصبح الخوف هواءً نتنفسه
القلق، كما يصفه علماء النفس، هو خوفٌ من تهديد غير مؤكد. أما في غزة، فالتهديد مؤكد مثل الصاروخ الذي يخترق السقف. القصف اليومي جعل الخوف عادةً جسدية، القلوب تطرق صدورها كطبول الحرب، والأعصاب مشدودة حتى في النوم، والعيون لا تعرف سكينة. الأطفال يحفظون أصوات الطائرات أكثر من أسماء ألوانهم. في أماكن أخرى يُعالج القلق بالجلسات السلوكية، أما في غزة، فلا علاج سوى النجاة المؤقتة من الموت.
الاكتئاب الجماعي: حين يصبح الحزن هو اللغة الرسمية
يعيش مئات الملايين حول العالم مع الاكتئاب، لكن في غزة، الاكتئاب ليس مرضاً، بل نظام حياة جماعي. كيف يمكن لامرأةٍ فقدت ثلاثة أبناء أن تعرف معنى «الفرح»؟ وكيف ينام أبٌ يحتضن حقيبة مدرسية بلا طفل؟
الموت هناك لا يقتل الجسد فقط، بل يسلب الدافع إلى الحياة.
الهوس واليأس: دورة الحرب النفسية
الاضطراب الثنائي القطب، الذي يجمع بين نوبات الهوس والاكتئاب، يتجلَّى في غزة بشكلٍ مجتمعي: حين يسمع الناس عن «هدنة مؤقتة»، يندفعون لبناء ما تهدَّم، وحين يعود القصف، يتحوَّل الأمل إلى انهيارٍ جديد.
تلك الدورة النفسية بين النهوض والسقوط تحوَّلت إلى مرضٍ جمعيٍّ مزمن، حيث لا يستقر المزاج إلا في لحظات ما بين القصفين.
الكوابيس لا تنام: جرح ما بعد الصدمة في كل بيت
في مناطق النزاعات، يُصاب واحدٌ من كل خمسة بأعراض اضطراب ما بعد الصدمة. لكن في غزة، تبدو النسبة أقرب إلى الكلّ، الأطفال يرسمون الطائرات بدل الزهور، والنساء يستيقظن على صراخ أطفالٍ ماتوا منذ شهور، والرجال يتحدثون إلى صور أحبّتهم، لأن الحديث مع الأحياء صار مؤلماً أكثر.
إنها كوابيس لا تنتهي، ذاكرة حيَّة تتنفس مع كل صفارة إنذار. الصدمة لم تعد عرضاً طارئاً، بل أصبحت هويةً جماعية لمدينةٍ مكلومة.
جيل بلا مدارس... ولا أحلام
من بين سبعة أطفال في غزة، هناك طفل فقد بيته، وآخر مدرسته، وثالث فقد أسرته كاملة. تم تدمير مئات المدارس، وقتل آلاف الطلبة، وتشريد مئات الآلاف. جيلٌ بأكمله تربَّى على الخوف قبل الأبجدية. في عالمٍ يقيس التقدُّم بعدد الجامعات، تقيس غزة نكبتها بعدد الفصول المهدَّمة.
النساء... في الخط الأمامي للمعاناة
في كل حرب، النساء أول مَنْ يتألم، وآخر مَنْ يُذكر. في غزة، تحوَّلت الأمومة إلى بطولة. النساء يلدن في الظلام، يرضعن تحت القصف، ويدفن أبناءهن في اليوم ذاته. يعانين اكتئاب ما بعد الولادة، من القلق المزمن، وفقدان الدعم. ورغم ذلك، ما زلن يطبخن على الركام، ويغنين لأطفالٍ غائبين. إنهن خط الدفاع الأول عن الصمود النفسي والإنساني في وجه الدمار.
الفقر والحصار والانهيار النفسي
قبل الحرب، كانت غزة من أكثر مناطق العالم فقراً واكتظاظاً. اليوم تجاوز الفقر 80 في المئة، والبطالة 75 في المئة. الفقر ليس رقماً اقتصادياً، إنه قيدٌ نفسيٌّ خانق.
حين يُحاصر الإنسان في خبزه وأمنه وكرامته، تتحوَّل الحياة اليومية إلى تجربةٍ مستمرةٍ من الإذلال الوجودي. لا كهرباء، لا دواء، لا ماء، ومع ذلك ما زالوا يتنفسون الصبر، كأنه آخر موردٍ متاح.
العالم المصاب بالفصام الأخلاقي
الصحة النفسية حقٌّ إنساني أساسي، لكن العالم يتعامل معها كترفٍ في المؤتمرات وموضوعٍ للجوائز الأكاديمية. يتحدَّث القادة عن «السلام»، فيما تمتلئ المقابر بأطفالٍ لم يبلغوا العاشرة. نحن نعيش في زمن الفصام الأخلاقي: عالمٌ يرفع شعار الرحمة نهاراً، ويبرِّر القتل ليلاً. يُنفق على السلاح ما يكفي لعلاج كل مريض نفسي على هذا الكوكب.
نداء من تحت الركام: أنقذوا الضمير الإنساني
- اليوم العالمي للصحة النفسية نداءٌ للتحرُّك لإنقاذ للضمير البشري كله.
- نطالب بضمان دولي مؤكد لاستمرار وقف إطلاق النار وفتح المعابر أمام المساعدات.
- إدماج الدعم النفسي في برامج الإغاثة الدولية.
- تأسيس وحدات طوارئ نفسية تعمل في كل منطقة منكوبة.
- تدريب فرق محلية على الإسعافات النفسية الأولية.
- برامج خاصة للأطفال والنساء كوسائل للتعافي.
- إعادة بناء الإنسان قبل الحجر، لأن العافية النفسية شرط الحياة.
غزة ليست مأساة... إنها اختبار العالم
في غزة، لم يعد الموت الخبر العاجل... بل النجاة أصبحت المعجزة.
المدينة التي أطفأ العالم أنوارها صارت مرآةً تكشف أمراض هذا العصر.
من بين الركام، يخرج صوت طفلٍ يقول: «أنا لم أمت... لكن العالم مات في داخلي». إنها فرصةً للعالم كي يستعيد عافيته الأخلاقية.
* وزير الصحة الأسبق