أكره اللامبالين
تشاهد وتتابع بملل متعالٍ مناظر كارثة إنسانية عبر شاشة تلفزيونية أو تقرأ خبراً صحافياً عن آلاف البشر يموتون من حرب ظالمة أو زلزال مدمر، أو قد تراقب مجاعة مدمرة كتلك التي تحدث في غزة أو بالسودان أو أي بلد مبتلى من حكامه أو من عصابات مسلحة لها شهواتها السادية في الحكم، فلا تكترث، بل تكمل حديثك الجانبي، ويظل فمك مشغولاً يفرم طبقك، وتبقى كما أنت بوجه جامد كتمثال أبي الهول لا تعابير ولا اكتراث.
وإذا كنت تتخيل بوهم كاذب أنك كاتب مرموق أو صاحب فكر – هو فكر خاوٍ- فتبدأ تنظر وتحلل أوضاع المأساة وتتلمس الأعذار ليس للناس المنكوبين بحالهم، بل لأنصاف المتعلمين وجهلة التاريخ لتريحهم من عبء المسؤولية الإنسانية وتظل بدورك تتلذذ ببؤس وضحالة حالك، فأنت مارست «سوء الطوية» بتعبير سارتري (نسبة لسارتر) وتلبسك الدور الزائف الذي سعيت إليه فأصبح جزءاً من ذاتك المتغطرسة.
الإعلامي الأميركي كريس هيدجز ناضل عقوداً من أجل القضايا الإنسانية، وكرّس حياته الإعلامية لفضح ممارسات النظام الإمبريالي والصهيونية وفقدَ بالتالي عمله كعقوبة لمواقفه الشجاعة، وقد كان أفضل مراسل لصحيفة نيويورك تايمز، لم يتحسر ولم يندم، بل صمد ببطولة على رأيه، وكان يقول إن أصحاب البلايين هم بشر خالون من مشاعر العطف المشارك، الكلمة بالإنكليزية هي «إمبثي» وهي روح المشاركة الصادقة مع المنكوبين وليس «سمبثي» أي مجرد التعاطف معهم.
قبل مئة عام كتب المناضل الإيطالي المفكر غرامشي عدة مقالات جُمعت فيما بعد بكتاب «دفاتر السجن». ثم قدم لمجموعة منها وراجع ترجمتها العربية محمد ايت أحمد، وكان عنوانها «أكره اللامبالين». فيها فكك غرامشي بنية اللامبالاة وحلل شخصية اللامبالين. حدد المبالاة بأنها «... الافتقار إلى العمق الروحي وتبلد الإحساس وانعدام التعاطف الإنساني... و(اللامبالاة) هي انعدام الخيال الدرامي». الله يحفظكم من عنجهية وغطرسة اللامبالين، فهم أصنام بأشكال بشرية تمشي على الأرض.