رويديات: لم أفعل شيئاً... إنما حَرَّكتُ الوَتَد!
يُحكى أنَّ شِرِّيراً مَرَّ بقَريةٍ يسكُنُها قومٌ صالحون، يعيشون بسلامٍ ووِئام، ويتقاسَمون الخيرَ كأنَّهم عائلةٌ واحدةٌ، على اختلافِ أديانِهم ومشارِبِهم. وكانت وُجوهُهم مُشرِقةً بالرِّضا، وبيوتُهم عامرةً بالمحبَّة، ولا يُرى فيهم إلّا أثَرُ البركة.
لم يُعجِب هذا المشهدَ الشِّرِّيرَ، الذي لا يَحيا إلا على الفُرقة، ويجدُ لذَّتَه في بَثِّ البَغضاء، وفي أن يرى الأخَ يُخاصمُ أخاه، والجَارَ يُعادي جارَه.
نظَر إلى القرية بعينِ الحسد، وقرَّر أن يُغادِرها، عازماً على متابعةِ طريقِه إلى حيثُ يجدُ القلوبَ المريضة، غيرَ أنه، وقبلَ أن يُغادِر حدودَ القرية، لمحَ امرأةً في مزرعتِها تَرعى أبقارَها وخِرافَها، وكانت تَحمِلُ طفلاً رضيعاً على ذِراعِها، تُغنِّي له بفرحٍ يُشبِهُ براءتها.
راقبَها الشرير طويلاً، وقد أزعجَه ذلك الصفاءُ المُضيءُ على وجهِها، وقال متمتماً: كيف لامرأةٍ بهذا الجمال أن تحيا حياةَ الفلاحين؟ وكيف تجدُ السعادةَ في هذا العيشة المتواضعة البِسيطة؟
اشتعلَ الحسدُ في صدرِه، وأحسَّ بغيظِه يغلِي، ثم اقتربَ منها مُتخفِّياً، حتى بلَغَ حظيرةَ البقر، وكانت قد ربطت بقرتَها إلى وَتَدٍ مغروسٍ في الأرض، ووضعَت الطفلَ الصغير إلى جانبِها، ثم بدأت تَحلبُ بقرتها وهي تبتسمُ لطفلها بين فَينةٍ وأخرى.
وعندها حرَّكَ الشريرُ الوَتَدَ برِجلِه، فما إن مالَ الوَتَدُ حتى اضطربَتِ البقرةُ، ورفسَتْ بقدميها، فوقعَ سَطلُ الحليب، وصاحت المرأةُ فَزعاً، فازدادت البقرةُ هيجاناً، وارتطمت قدماها بالطفلِ الرضيع، فقتلَتْه.
شهقت الأمُّ، وصرخت صرخةً هزَّت المكان، ثم حملت سِكِّينَها وطعنتِ البقرةَ في غمرةِ جُنونِها. هرعَ زوجُها على الصُّراخ، فرأى طفلَه جُثَّةً هامدةً، وبقرتَه مذبوحةً، وزوجتَه تَرتجف، فانهالَ عليها ضرباً لا يَدري ما يفعل.
وصادف أن مرَّ والدُها، فرأى المنظرَ، فهاجَ وغضِب، واشتعلتِ الخصومةُ بين الرجلَين. تَجمَّع الناسُ، وانقسموا فريقَين: فريقاً مع الزوج، وفريقاً مع المرأةِ وأهلِها.
وتحوَّل الصُّراخُ إلى عِراك، والعِراكُ إلى دماء، وإلى نارٍ التهَمَتِ القريةَ بأسرِها. وبينما كانتِ القريةُ تَغرَقُ في الفوضى، كان الشريرُ يبتعدُ مُبتسماً يُردِّد في نفسِه: «لم أفعلْ شيئاً، إنما حَرَّكتُ الوَتَد!».
وهكذا، بمجرَّدِ تحريك الوتد من قدمٍ حاقدة، سقطت قريةُ الخير، وتحوَّل الرِّضا إلى لَعَنات، والمحبَّةُ إلى دماء.
فكم من فتنةٍ تبدأُ بكلمةٍ أو فِعلٍ بسيط، فتزدادُ ألسنةُ الناسِ حِقداً، وتتحرَّكُ القلوبُ بعيداً عن الحقِّ، لذلك علينا أن نتذكَّر دائماً قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ}.
إنَّ كلَّ كلمةٍ أو تصرُّفٍ صغيرٍ قد يُحدِثُ خراباً إذا غابَ التثبُّتُ، وإنَّ المحبَّة هي الحِصنُ الذي يُوقِفُ الفتنةَ ويُثبِّتُ المجتمع. فإذا زرعنا الرحمةَ والمودَّةَ في نفوسِنا، وإذا تحقَّقنا قبل نقلِ أيِّ خبر، وإذا سعَينا لتقويةِ روابطِنا الإنسانيَّة، فإنَّنا نَحمي أوطانَنا من أيِّ شرٍّ، ، فلا نَدَعْ فتنةً صغيرةً تتحوَّلُ إلى نارٍ تُحرِقُ كلَّ ما بناه الخير.