الكويت في المرتبة 27 عالمياً في البنية التحتية الصحية... فلماذا لا تكون الأولى؟

نشر في 13-10-2025
آخر تحديث 12-10-2025 | 18:45
 محمد الجارالله

هذا المقال يأتي من منطلق الاعتزاز بما تحقق في البنية التحتية الصحية في الكويت على مدى عقود، وبما يتحقق الآن. ومن باب الشراكة الوطنية في طرح ما نراه كفيلاً بدعم هذه المسيرة وتعزيز مردودها.

شهادة عالمية من جنيف

لم أنسَ ذلك الصباح في جنيف عام 2003. كنتُ وزيراً للصحة ممثلاً لدولة الكويت في اجتماع منظمة الصحة العالمية، جالساً بين خمسة وثلاثين وزير صحة من قارات مختلفة، في قاعة تعج بالخبراء والوجوه المهيبة. كان كل متحدث يصعد إلى المنصة ليعرض التحديات التي يواجهها نظامه الصحي، وكيف يسعى لتطوير البنية التحتية والخدمات. وعندما جاء دوري، تحدثت بكل صدق وثقة عن واقع الكويت الصحي، لا مبالغة فيه ولا ادعاء. قلت لهم إن الكويت – برغم مساحتها الصغيرة وعدد سكانها المحدود – استطاعت منذ الستينيات أن تبني شبكة رعاية صحية متكاملة، لا يفصل بين المواطن وأقرب مركز صحي أكثر من عشر دقائق، ولا بينه وبين مستشفى عام أكثر من عشرين دقيقة، أيًّا كان موقع سكنه. ولم أجد من يوافقني في هذا الوصف إلا وزير الصحة النرويجي الذي قال إن بلده يتمتع بمستوى مشابه فقط.

قصة نائب الرئيس الأميركي... ومفارقة السرعة

زار الكويت بعد الغزو ابن الرئيس الأميركي جورج بوش، والولايات المتحدة صاحبة أضخم إنفاق صحي عالمياً. وفي ديوان الغنام بضاحية عبدالله السالم يقول في إحدى مباريات البيسبول في ولاية فرجينيا، تعرض نائب الرئيس الأميركي آنذاك، جورج بوش الأب، للسعة نحلة في رقبته، فأصيب بحساسية مفرطة وبدأ مجرى التنفس يضيق عليه. أُعلنت حالة الطوارئ، وتحركت سيارات الإسعاف بسرعة قصوى، ومع ذلك استغرق وصوله إلى المستشفى خمس وأربعين دقيقة! وقلت لهم يومها: كيف تكون الكويت – الصغيرة بمساحتها – أسرع وصولاً للرعاية من الولايات المتحدة بكل طرقها السريعة ومروحياتها المتطورة؟

بنية تحتية متقدمة... وأداء لا يوازيها

لم يكن ذلك تباهياً، بل توصيفاً موضوعياً لواقع يستحق الإشادة. وإذا كانت بعض التقارير الدولية تضع الكويت اليوم في المرتبة السابعة والعشرين عالمياً من حيث البنية التحتية الصحية، فإنني أرى – من موقع الخبرة والمعايشة – أن هذه المرتبة أقل مما تستحقه الكويت فعلياً. ومع إقرارنا بأن البنيان متكامل ومشرف، يظل السؤال المشروع: إذا كانت لدينا هذه البنية المتقدمة، فلماذا لا يعكس الأداء الصحي المستوى ذاته؟ لماذا يشعر المواطن أحياناً بأن الخدمة لا توازي الإمكانات؟

المشكلة ليست في المباني... بل

في التشغيل والنظام

الحقيقة أن المشكلة – في جوهرها – ليست في المباني، بل في طريقة تشغيلها. فمنذ الاستقلال حتى اليوم، ظل النظام الصحي يُدار بمنهج إداري واحد: وزارة مالية تموّل، ووزارة صحة تنفق، والمستشفيات تُدار وفق ميزانيات تشغيلية ثابتة لا ترتبط بالإنتاجية أو الجودة أو مؤشرات الأداء الفعلية. هذا النموذج الإداري كان مناسباً في زمن مضى، لكنه لم يعد قادراً اليوم على تحقيق الكفاءة المطلوبة في عصر يقوم على المحاسبة والتحفيز والتنافسية بين مقدمي الخدمة.

وفي الوقت نفسه، لا يمكن تجاهل الجهود الكبيرة التي تبذلها الدولة في توسعة المرافق الصحية وإنشاء مستشفيات جديدة ومدن طبية متطورة. لكن السؤال هنا ليس عن الكم، بل عن التشغيل. فمستشفى الصباح الجديد جاهز منذ ثلاث سنوات ولم يُشغَّل حتى الآن، ومستشفى جابر يعمل بجزء محدود من طاقته، والمستشفيات الجديدة في الجهراء والفروانية والعدان لم تبلغ التشغيل الكامل، ومستشفى الولادة الذي افتتح رسمياً لا يعمل إلا بنسبة 10%، فهل الحل أن نستمر في البناء أم أن نستثمر أولًا في تشغيل ما بُني؟

دروس من بريطانيا وأميركا

بريطانيا – وهي من أعرق الأنظمة الصحية – خفّضت عدد الأسرة في مستشفياتها إلى النصف خلال العقود الماضية، ليس لأن المرضى قلّوا، بل لأن التشغيل أصبح أكثر كفاءة، ومدة الإقامة أقصر، ومسار المريض أذكى. وحتى الولايات المتحدة، برغم قدراتها، أدركت أن زيادة السعة دون ضبط التشغيل لا تعني تحسين الخدمة، بل زيادة التكاليف دون جدوى ملموسة، لذلك خفضت عدد الأسرّة.

التجربة الإماراتية والسعودية... نموذج تشغيلي مختلف

لقد أدخلنا نظام الكمبيوتر للمراكز الصحية في الكويت عام 2003، وكانت تلك خطوة مهمة في حينها. لكن — وبرغم مرور أكثر من عشرين عاماً — لم نتمكن حتى اليوم من إدخال نظام معلومات متكامل في المستشفيات، ولم نحقق الربط الإلكتروني بين المراكز والمستشفيات، ولا تزال ملفات المرضى ورقية، والتحويل بينهم يتم بالأوراق، ولم نصل إلى الملف الصحي الإلكتروني الموحد لكل مواطن. ومن خلال خبرتي في هذا الشأن، أرى أن تحقيق ذلك — وفق النظام الإداري الحالي — أقرب إلى الاستحالة. فالنظام القديم لم يعد قادراً على استيعاب أدوات العصر.

ولننظر إلى التجربة الإماراتية القريبة منا، فقد خفّضت ميزانيتها الصحية إلى أقل من النصف عندما أسندت تشغيل المستشفيات الحكومية إلى شركات حكومية وطنية، تعمل وفق معايير القطاع الخاص بدقة وجودة وكفاءة تشغيلية عالية. وكذلك نرى اليوم التحول الكبير في المملكة العربية السعودية، حيث أصبحت الشركات الحكومية هي التي تدير المستشفيات والمراكز الصحية (كل مستشفى حكومي مع مراكزه التابعة له اصبح شركة حكومية للمواطن تأمين شامل فيها) فحققت كفاءة منسجمة تماما مع المعايير العالمية.

الخلاصة... نصيحة مخلصة

إنها نصيحة مخلصة للأخوة والزملاء في وزارة الصحة: لنقتنص فرصة العهد الجديد، ولننتقل من إدارة خدمية تقليدية إلى إدارة تشغيل احترافية حديثة... من خلال شركات حكومية وتأمين شامل لكل مواطن، فهذا هو الطريق الحقيقي للإصلاح. ولنستغل العهد الجديد ونكون أحد أهم إنجازاته.

* وزير الصحة الأسبق

back to top