من الكويت إلى غزة... تضامُن لا يعرف الحدود
في زمنٍ تتراكم فيه بيانات الشجب والتنديد كأوراقٍ على طاولةٍ باردة، يخرج من البحر صوتٌ مختلف. سفنٌ صغيرة، متعبة، لكنها عنيدة، تمخر عباب المتوسط لتقول للعالم: هناك شعبٌ محاصر، هناك جريمةٌ مستمرة، وهناك من يرفض أن يكون جزءاً من الصمت.
«أسطول غزّة» لم يكن مجرد مبادرة إنسانية، بل فعل رمزيٌّ يختصر معنى التضامن حين يتحوّل من كلامٍ إلى فعل.
أن تُبحر سفنٌ محمّلة بالأدوية والقمح والضمائر الحيّة نحو شواطئٍ محاصرة منذ ما يزيد على ثمانية عشر عاماً، فهذا إعلانٌ صريح بأنّ الضمير الإنساني لم يمت بعد.
حصارٌ طويلٌ جائر يمنع الغذاء والدواء وحتى الحركة، ويحوّل الحياة اليومية إلى معركةٍ للبقاء، فيما يكتفي العالم بالمشاهدة.
في الثاني والعشرين من أغسطس 2025، أعلنت المنظمات الدولية تفشّي المجاعة رسمياً في قطاع غزّة، وبعد هذا الإعلان بشهرٍ واحد، أبحر أسطول الصمود من موانئ إيطاليا وإسبانيا واليونان وتونس، في تحركٍ هو الأول من نوعه منذ عام 2008.
نحو خمسين سفينة حملت أكثر من خمسمئة ناشطٍ مدنيٍّ من سبعٍ وأربعين دولة، جمعتهم فكرةٌ واحدة: أن كسر الحصار ليس مجرد رحلة في البحر، بل نداءٌ أخلاقيٌّ للعالم بأنّ الجوع لا يمكن أن يكون أداة حرب.
وكما في كل القضايا العادلة، لم تغب الكويت عن المشهد... ثلاثة كويتيين حملوا معهم روح البلاد وموقفها الثابت في الدفاع عن الإنسان: د. محمد جمال، الجراح المعروف الذي خاض تجارب إغاثية عدة في غزة، وأجرى عمليات لإنقاذ الجرحى خلال العدوان الأخير، والمحامي خالد مساعد العبدالجادر، الناشط الحقوقي والإنساني الذي عرفته الساحات التطوعية منذ أكثر من عقدين، إضافة إلى الناشط عبدالله مبارك المطوع، المستشار الاستثماري والفاعل في المشاريع الخيرية والتربوية داخل الكويت وخارجها.
وجودهم لم يكن تمثيلاً رمزياً، بل تأكيداً على أن الموقف الكويتي ليس مجاملةً، بل قناعةً متجذّرة بأنّ غزة قضيةُ ضميرٍ إنسانيٍّ قبل أن تكون قضية سياسية.
ورغم النوايا السلمية والأسطول المدني الواضح، لم تسلم هذه السفن من الغدر، فقد اعترضتها قوات الاحتلال الإسرائيلي في عرض البحر، وصادرت بعضها، واعتقلت عدداً من النشطاء من بينهم الكويتيون الثلاثة المشاركون. ولاحقاً، أُفرج عن اثنين ورُحِّلا إلى إسطنبول، وبعدهما تم الإفراج عن الثالث وترحيله إلى الأردن تمهيداً لعودته للكويت.
أصدرت وزارة الخارجية الكويتية بياناً رسمياً أكدت فيه متابعتها الحثيثة للقضية منذ اللحظة الأولى، وأوضح الوزير عبدالله اليحيا أن بلاده وبلادنا «لن تدّخر جهداً في حماية مواطنيها والدفاع عن حقهم المشروع في العمل الإنساني»، مؤكدًا أن ما جرى يمثل «انتهاكاً صارخاً للقانون الدولي الإنساني، لأن الأسطول كان يحمل مساعداتٍ مدنية بحتة».
أما ما جرى في البحر فلا يمكن قراءته خارج سياق القانون الدولي، فوفق اتفاقيات جنيف، يُعد اعتراض أو اعتقال المدنيين المشاركين في بعثات إغاثية جريمة حرب لا تسقط بالتقادم.
لكن في عالمٍ يختنق بالصمت، يصبح القانون نفسه بحاجةٍ إلى من يدافع عنه، لقد حاول «أسطول الصمود» أن يقول للعالم إن الإنسانية لا تموت بالحصار، وإنّ البحر - مهما تلوّث بالسياسة - سيظل مرآةً للحرية.
في أسطول غزّة 2025، حمل كل من الكويتيين الثلاثة جوازاً واحداً، لكنه كان أثقل من مجرد وثيقة سفر... كان رمزاً للموقف.
من الكويت إلى غزة، تمتدّ رحلة الضمير، حيث لا الجغرافيا تعني شيئاً، ولا الحدود توقف المعنى. غزّة اليوم ليست وحدها: فكل سفينةٍ أبحرت كانت صرخةً في وجه العالم بأنّ التضامن ليس ترفاً، بل واجبٌ إنسانيٌّ وحقٌّ أخلاقيٌّ.
وحين تعود هذه السفن إلى الموانئ، سيبقى البحر شاهداً على أن من يبحر من أجل العدالة، لا ترده أمواج السياسة ولا قيود الحديد.
حين تستيقظ الضمائر، تتقزّم الإمبراطوريات، وتبحر السفن الصغيرة لتكتب في البحر ملحمة اسمها الإنسان.
* أكاديمي في قسم العلوم السياسية بجامعة الكويت