بارقة أمل لربيع غربي
لم أرَ مظاهرات بهذا الحجم في حياتي، موجات بشرية بلا نهاية، هكذا وصف أحد المراقبين مشهد المظاهرات الضخمة التي شهدتها ميلانو وعدة مدن إيطالية وغربية حسب جريدة جاكوبن. مظاهرات اجتاحت شوارع أوروبا وأستراليا ومدن أميركية، امتدت عبر كل الدول التي لا تخيط أفواه المواطنين فيها بخيوط القمع السلطوي، بل تترك لهم هامشاً واسعاً من حرية التعبير.
تلك التظاهرات الضخمة، التي خرجت في مدن إيطالية كبرى، جاءت تضامناً مع أهالي غزة ورفضاً للإبادة الجماعية، التي تمارسها الدولة الصهيونية، وللاحتجاج على مصادرة قافلة الصمود البحرية. ومع أن دساتير الدول الغربية تعلن - نصاً - حرية الضمير والتعبير، إلا أن تلك الحريات باتت تتراجع تحت وطأة هيمنة الأوليغارشية العالمية المتحالفة مع الصهيونية، التي تسعى إلى وسم كل احتجاج ضد العدوان بأنه «معاداة للسامية».
ورغم هذا الانكماش، فإن هامش الحرية هناك يبقى أوسع بما لا يُقاس بعالمنا العربي، حيث يُرفع شعار «اخرس إلى الأبد»، وتُجرَّم أبسط أشكال النقد السياسي تحت مسمى «أمن الدولة»، وكأن القوانين صادرة عن سلطات شرعية لا عن أجهزة أمنية.
لكن ما يجري في شوارع أوروبا يتجاوز المأساة الغزّية المباشرة. فغزة ليست سوى الشرارة التي كشفت عن تراكمات أعمق، عن رفضٍ شعبي متنامٍ لسطوة الأوليغارشية الغربية المتمثلة في جماعات المحافظين الجدد الذين بسطوا نفوذهم على أوروبا والولايات المتحدة منذ منتصف السبعينيات.
اليوم بلغت هيمنتهم أقصى مداها، كما يظهر في الولايات المتحدة وفي إيطاليا التي تقودها المتعجرفة جورجيا ميلوني، إحدى أشدّ المؤيدين للدولة الصهيونية.
هذه الحركات الاحتجاجية، في جوهرها، ليست إلا ثورة ضمير ضد حكم الواحد في المئة أو العشرة في المئة، أولئك الذين يحتكرون معظم الثروة القومية ويُحكمون قبضتهم على القرار السياسي والإعلامي.
وليس غريباً أن يصف نتنياهو هذه «اليقظة» بأنها عودة للنازية، فالرجل يدرك أن جوهرها موجه ضد تحالف الرأسمال الضخم واللوبي الصهيوني، وضد رموز الثروة والتقنية الذين يُحتفى بهم في عالمنا العربي بوصفهم «نجوم العصر»، من أمثال ملاك «غوغل» و«أمازون» و«مايكروسوفت» و«إكس».
إن هذه الاحتجاجات، بما تحمله من نبض إنساني، تمثل بارقة أمل لولادة جديدة في الغرب قد تكون الشرارة الأولى لربيعٍ غربيٍّ يهزّ أسس الأنظمة التسلطية والأوليغارشية العالمية، ويفتح أفقاً جديداً لحركة ضمير إنسانية قادرة على إعادة كتابة التاريخ، هذه المرة باسم الحرية لا الهيمنة، وباسم الإنسان لا السوق.