الكويت في العهد الجديد... من بصمة الحضور إلى دولة الإنجاز والمؤشرات

نشر في 07-10-2025
آخر تحديث 06-10-2025 | 19:25
 محمد الجارالله

حين تنطق الأرقام... تصمت الأعذار

لنبدأ من الحقيقة التي لا تُجامل: الطبيب في المستشفى الحكومي بالكويت يجري معدل ثلاث عمليات فقط في الشهر، بينما يجري نظيره في القطاع الخاص داخل الكويت أربعين عملية، وفي فرنسا – في القطاع الحكومي – يبلغ المعدل خمساً وثلاثين عملية شهرياً. هذه المفارقة لا تعني أن الطبيب الكويتي أقل كفاءة، أو إخلاصاً بل تكشف عن منظومة عملٍ تجمد فيها الحافز، وغابت فيها المحاسبة، وتآكل فيها الأداء. وهذا ما نطلب تغييره في العهد الجديد.

القضية ليست حكراً على الصحة

حدّثني كثير من المسؤولين السابقين والحاليين أن هذه الظاهرة ليست حكراً على القطاع الصحي، بل متفشية في كثير من مرافق الدولة الحكومية ومؤسساتها، وتكاد تكون قاصمة ومؤثرة سلباً على الاقتصاد الكويتي وكيان الدولة الإداري والمعاملات في كل مرفق بلا استثناء. الثقافة السائدة هي بيئة واحدة، فالابن الذي يعمل في البلدية نشأ مع الطبيب ومع موظف الكهرباء وموظف التربية في نفس البيت والحي، وتشرّب فكرة أن البطء أو تأجيل العمل او اللامبالاة أمر «طبيعي»، ما رسّخ ثقافة إنتاجية متدنية وهدر موارد وغياب مؤشرات الأداء.

الربيعان يحذر من فقدان الكفاءات

لكن هذا الواقع الذي امتد عقوداً بدأ يتصدّع. فالعهد الجديد أتى ليعلن أن «الوظيفة» ليست منحة... بل مسؤولية وطنية، وأن كفاءة الموظف هي مقياس كرامته، لا عدد سنوات خدمته. ومن هنا نريد أن تتقدم الكفاءة والخبرة والجدارة واستخدام الذكاء الاصطناعي المتجرد على الولاء أو الانتماءات في التعيينات والترقيات. وهنا يبرز تصريح رئيس ديوان الخدمة المدنية د. عصام الربيعان الذي حذّر من فقدان الكفاءات في الجهاز الحكومي، وهو تصريح مهم يعكس وعياً متزايداً بالمشكلة من داخل المؤسسة نفسها، ويستحق الإشادة على شجاعته في طرح هذا التشخيص علناً. إن هذا الوعي على مستوى القيادة الإدارية هو الخطوة الأولى للإصلاح.

لغة العصر... المؤشرات (KPI)

العالم يتحدث بلغةٍ واحدة: لغة المؤشرات. مؤشرات الأداء الرئيسية – KPI – هي المعيار الجديد للعدالة والنجاح. لا مكان فيها للظنون أو الأعذار. فهي تقيس، وتُقارن، وتُظهر الحقيقة كما هي.

في العهد الجديد، يجب أن يتعلم كل موظف كيف يُقاس أداؤه، وكيف يُحاسب، وكيف يُكافأ.

أن يدرك أن كل مهمة لها مؤشر، وكل نتيجة لها رقم، وكل رقمٍ يعني مسؤولية. من لا يُقاس... لا يُدار. ومن لا يُدار... لا يتطور. الإدارة الحديثة تبدأ من التعليم. حين يتعلم الموظف معنى «النتائج القابلة للقياس»، وأهمية إدخال ثقافة الـ KPI في كل برامج التدريب الحكومي.

عهد ينحاز للكفاءة لا للروتين

في التاريخ لحظات فاصلة تُعيد تعريف هوية الأمم، ولعل ما تعيشه الكويت اليوم هو إحدى تلك اللحظات النادرة. فللمرة الأولى منذ عقود، يتحول الإصلاح الإداري من شعار إلى مشروع، وثقافة وطنية تُزرع في كل وزارة ومؤسسة ومكتب. الكويت اليوم لا تبحث عن موظفٍ حاضر، بل عن موظفٍ يُغيّر. قرار إلزامية البصمة لم يكن مجرد إجراء إداري، بل صفارة بداية لمشروع وطني ضخم يهدف إلى إعادة هيكلة الجهاز الحكومي. صحيح أن البصمة لا تصنع كفاءة، لكنها تؤسس لثقافة انضباط جديدة، ثقافة تُعيد الاحترام للوقت، وللمؤسسة، فالعهد الجديد لا يريد وجوهاً في المكاتب، بل عقولاً في المشاريع وقلوباً في العمل العام. تضيف قيمة للوطن كل يوم. العهد الجديد يعلن بوضوح: الكفاءة قبل الولاء، والإنجاز قبل الكلام، والنتائج قبل التقارير. بدأت مرحلة جديدة من التقييم الصارم.

دروس من العالم... وعبور

نحو المستقبل

تجارب الدول الناجحة تُلهمنا: في السعودية، تحوّلت المستشفيات الحكومية إلى شركات تديرها عقلية استثمارية، وفي دبي أصبحت كل جهة حكومية تتنافس على التميز كما تتنافس الشركات الخاصة، وفي كوريا وسنغافورة ارتفعت الإنتاجية لأن الترقية لم تعد بالأقدمية بل بالإنجاز.

الكويت تسير بخطى ثابتة

اليوم تسير الكويت في الاتجاه نفسه، بخطى ثابتة، وهي تمتلك ما لا تملكه تلك الدول حين بدأت:

خبرة تراكمية، وقيادة سياسية واعية، وشعب متعلم، وجيل شاب يريد أن يُثبت نفسه. ولذلك نريد تطبيق رؤية شاملة متدرجة على ثلاث مراحل:

في المدى القصير (خلال سنة) يتشكل فريق المتابعة في مجلس الوزراء، تُعتمد مؤشرات الأداء وتُحصر الفوائض الوظيفية.

في المدى المتوسط (سنتان إلى ثلاث سنوات) يُنفَّذ فعلياً نظام مؤشرات الأداء الفردية وتُطلق برامج تحويل المسارات الوظيفية ومواءمة التعليم والتدريب مع سوق العمل.

أما في المدى الطويل (ثلاث إلى خمس سنوات) فتترسخ ثقافة الأداء والمحاسبة ويُعاد توجيه فائض الموظفين إلى قطاعات إنتاجية أو شبه حكومية، ويُخفض حجم الجهاز الإداري تدريجياً من دون تسريح جماعي.

ولادة جهاز حكومي رشيد

ليست المسألة أن نخلق وظائف جديدة، بل أن نخلق فرصاً للتميز داخل الوظائف القائمة.

أن يتحول كل موظف حكومي إلى صانع قرارٍ صغيرٍ في مجاله، وأن يرى في عمله رسالة وطنية تُمكّنه لا تقيّده. وهذا التحول لن يحدث إلا عبر منظومة تحفيز واضحة، تربط الجهد بالترقية، والإنجاز بالمكافأة، والابتكار بالتقدير وتعتمد على المؤشرات الرقمية والذكاء الاصطناعي.

النتيجة المنتظرة من هذا التحول ليست مجرد ضبط للحضور، بل ولادة جهاز حكومي رشيد، ذكي، مرن، متفاعل مع الاقتصاد والمجتمع.

التأمين الصحي فرصة لا تُقدّر بثمن

السنوات الخمس المقبلة هي أخطر وأغلى مرحلة في مسار الكويت الصحي. فمع انتقال مليوني وافد إلى مستشفيات الضمان، وتحويل المستشفيات الحكومية إلى شركات تابعة لهيئة الاستثمار، تملك

الكويت فرصة فريدة لإعادة هندسة قطاعها العام بأكمله. هذه ليست أزمة، بل منجم ذهب إداري، إذا استُثمر بعقل إصلاحي شجاع.

دعوة للإنجاز

لقد بدأ العدّ التنازلي لعهدٍ جديدٍ في الإدارة الكويتية.عهدٌ لا يُريد أعذاراً بل إنجازات، ولا يحتفي بالروتين بل بالمبادرة. إنها دعوة صريحة لكل مسؤول وموظف ومواطن: ضع بصمتك في مستقبل الكويت... لا على جهاز البصمة فقط، بل على وجهها القادم. الكويت لا تحتاج إلى مزيدٍ من الحضور، بل إلى حضورٍ مؤثرٍ في النهضة، وصوتٍ واضحٍ في التنمية، وخطوةٍ جادةٍ نحو الإصلاح. فلتكن هذه البصمة بداية قصة جديدة... قصة وطنٍ يُعيد اكتشاف نفسه من خلال كفاءاته.

* وزير الصحة الأسبق

back to top