وجهة نظر: حماية أسرار الشركة وعدم المنافسة وحق الرجوع على الموظفين
تواجه الشركات في العصر الحديث تحدياً جوهرياً يتمثل في المحافظة على سرية معلوماتها التجارية، والتي تشكل عصب ميزتها التنافسية وركيزة نجاحها. وتنشأ هذه الإشكالية من مفارقة حتمية، فالشركة تستثمر موارد ضخمة في تدريب موظفيها وتطويرهم، وتمنحهم بحكم طبيعة عملهم صلاحيات واسعة للاطلاع على أدق أسرارها التشغيلية والتجارية، من خطط تسويقية وقوائم عملاء واستراتيجيات تسعير. هذا الاستثمار في رأس المال البشري هو ذاته ما يخلق نقطة الضعف الأبرز.
إن نجاح الشركة وتميزها في السوق يجعلها هدفاً للمنافسين، الذين يسعون بشتى الطرق للحصول على المعلومات التي تمنحها الأفضلية. ويصبح استقطاب الموظفين الحاملين لهذه الأسرار، أو استدراجهم لتسريب المعلومات، أداة رئيسية في المنافسة غير العادلة، مما يشكل تهديداً كبيراً لاستمرارية العمل التجاري وسلامة السوق.
من هذا المنطلق، بات لزاماً على الشركات أن تضع آليات حماية متعددة الأوجه، لا تقتصر على التحصينات التقنية، بل تمتد لتشمل منظومة قانونية وإجرائية متكاملة تهدف إلى حماية أصولها غير الملموسة وردع ك كل الممارسات غير القانونية التي تهدد استمرار نجاحها. وتتناول هذه الدراسة الأسس القانونية التي يمكن للشركة الاستناد إليها، والمحاذير التي يجب الانتباه لها، والحلول القانونية المتاحة لضمان حقها في مواجهة هذه التحديات.
المحور الأول: مسؤولية الموظف وحق الشركة في الرجوع
إن حق الشركة في ملاحقة الموظف الذي قام بتسريب معلوماتها لا يستند إلى أساس قانوني واحد، بل إلى منظومة متكاملة من المسؤوليات التي تترتب على فعله، مما يمنح الشركة خيارات متعددة وقوية للرجوع عليه.
1 - المسؤولية العقدية: الإخلال المباشر بعقد العمل
يمثل عقد العمل الذي وقّع عليه الموظف الوثيقة الأساسية التي تحكم التزاماته. وفي تلك الحالة يجب أن تتضمن عقود عمل الموظفين بنداً خاصاً بالسرية، إضافة إلى المهام الوظيفية والواجبات التي ستكون ضمن بنود العقد، اضافة الى بند خاص بالمحافظة على سرية المعلومات، وننصح بذكر تلك المعلومات التي تكون معلومة لديه ضمن أعماله الوظيفية وتخضع للحماية التي يقر بالمحافظة عليها تحديدا، إذ إن فعل التسريب يشكل خرقاً صريحاً ومباشراً لالتزاماته التعاقدية، والتي تمنح الشركة حق الرجوع بعدة أوجه.
حق الرجوع: بناءً على هذه المسؤولية، يحق للشركة فصل الموظف فصلاً مبرراً وحرمانه من مستحقات نهاية الخدمة وبدل الإنذار.
2 - المسؤولية العمالية: مخالفة قانون العمل الكويتي
يدعم قانون العمل رقم 6 لسنة 2010 في القطاع الأهلي موقف الشركة بنصوص آمرة لا يمكن مخالفتها:
• المادة (61): تفرض هذه المادة واجباً قانونياً عاماً على كل عامل بـ «المحافظة على أسرار العمل»، وتعتبر الإفشاء «مخالفة للعقد».
• المادة (41): تمنح هذه المادة صاحب العمل الحق في فصل العامل دون إخطار أو تعويض أو مكافأة إذا «أفشى العامل الأسرار الخاصة بالمنشأة مما تسبب أو كان من شأنه أن يتسبب بخسارة محققة لها».
حق الرجوع: تمنح هذه المواد الشركة سنداً قانونياً مطلقاً لتطبيق عقوبة الفصل مع حرمان الموظف من حقوقه العمالية، وهو أقسى جزاء في قانون العمل.
3 - المسؤولية الجزائية: تكييف الفعل كجريمة جنائية
يمكن تكييف فعل الموظف ليدخل في نطاق التجريم الجنائي، مما ينقل القضية من مجرد نزاع عمالي إلى جريمة يعاقب عليها القانون العام.
• المادة (240) من قانون الجزاء (خيانة الأمانة): تنطبق هذه المادة على الحالة، حيث إن الموظف تسلم «مستندات وكتابات أخرى» (سواء ورقية أو إلكترونية) على سبيل الأمانة بحكم عمله، وقيامه باستعمالها أو تبديدها لغير مصلحة الشركة (عبر تسريبها) يمثل الأركان المادية والمعنوية الكاملة لجريمة خيانة الأمانة.
حق الرجوع: يحق للشركة تقديم شكوى جزائية لدى جهات التحقيق مما يعرض الموظف لعقوبات جنائية تشمل الحبس والغرامة.
4 - المسؤولية المدنية: الحق في التعويض عن الضرر
تتيح قواعد القانون المدني للشركة الرجوع على الموظف للمطالبة بالتعويض المالي عن كافة الأضرار التي لحقت بها نتيجة فعله الخاطئ، ومسؤوليته العقدية لاسيما ثبوت الخطأ الجنائي.
• أساس المطالبة: تستند الدعوى إلى مبدأ «كل خطأ سبب ضرراً للغير يلزم من ارتكبه بالتعويض».
• نطاق التعويض: يشمل التعويض الخسائر المادية المباشرة (مثل خسارة عملاء حاليين أو عقود مستقبلية)، والأضرار المعنوية (مثل الإساءة لسمعة الشركة التجارية).
حق الرجوع: يحق للشركة رفع دعوى مدنية مستقلة للمطالبة بتعويضات مالية قد تكون كبيرة، وتؤكد السوابق القضائية الكويتية نجاح مثل هذه الدعاوى في حال نجحت الشركة في حصر الاضرار واثبات علاقة السبب بهذا الخطأ.
المحور الثاني: قواعد وإجراءات المحافظة على التزام الموظف
لمنع تكرار مثل هذه الحوادث، يجب على الشركة تبني استراتيجية حماية متكاملة تجمع بين التحصين التعاقدي والرقابة الإجرائية الداخلية.
1 - القواعد التعاقدية (التحصين عبر العقد)
عقد العمل هو خط الدفاع الأول، ويجب أن يتضمن بنوداً رادعة ومحصنة قانونياً:
• بند السرية: يجب أن يكون شاملاً كما هو الحال في عقدكم الحالي، بحيث يعرف المعلومات السرية تعريفاً واسعاً لا يقتصر على فئات محددة، ويحظر صراحة أفعالاً مثل النسخ والاستغلال التجاري والاستخدام الشخصي، وينص بوضوح على أن الالتزام بالسرية يمتد إلى ما بعد انتهاء علاقة العمل. ويجب أيضا تحديد المعلومات التي يشملها بند السرية سواء في العقد أو بإقرارات خاصة تكون مختلفة لكل موظف على حسب المعلومات التي يخشى افشاءها والتي يطلع عليها بطبيعة مهامه الوظيفية.
• بند العهود التقييدية: يمكن اضافة بنود يتعهد بها الموظف المستقيل أو الذي تم إنهاء خدماته من الشركة وهي التي تمثل شروط عدم المنافسة ما بعد الوظيفة والتي يستغل بها معلوماته عن الشركة وموظفيها واسرارها للمنافسة غير الصحيحة والعادلة.
- شرط عدم المنافسة: يمنع الموظف من العمل لدى أي شركة منافسة بشكل مباشر لمدة زمنية محددة يتم الاتفاق عليها وضمن نطاق جغرافي معين سواء في البلد نفسه أو الإقليم حسب طبيعة العمل أو المهمة بشرط ألا يتعارض هذا البند مع حق الإنسان بالعمل وحريته بالاختيار، وهي مفارقة دقيقة جداً من صحة البند وقانونية ابطاله لتعارضه هذا البند ويجب أن يكون متوازنا وعادلا بما يتفق مع حق الموظف وينصب فقط في نطاق المنافسة.
- شرط عدم استقطاب العملاء والموظفين: يمنع الموظف السابق من التواصل مع عملاء الشركة أو موظفيها بهدف إغرائهم بترك الشركة.
• بند الملكية الفكرية: يجب التأكيد على أن جميع الابتكارات والأعمال التي يطورها الموظف أثناء عمله هي ملك حصري للشركة، مما يمنعه من استغلالها بعد مغادرته.
• إقرارات السرية المخصصة والمحدثة: كإجراء وقائي إضافي، نوصي بتطبيق نظام «إقرارات السرية». وهو عبارة عن مستند منفصل أو ملحق بالعقد يوقّع عليه الموظف، ويتضمن قائمة محددة بالمعلومات والبيانات والمستندات السرية والمهمة التي يطلع عليها بحكم منصبه (مثل: قائمة كبار العملاء، تفاصيل الصفقات الاستراتيجية، أكواد برمجية معينة). الهدف من هذا الإجراء هو إزالة أي لبس مستقبلي حول طبيعة المعلومات، بحيث لا يستطيع الموظف الادعاء بأنه لم يكن يعلم أن هذه المعلومات تحديداً تعتبر سرية أو مهمة. ويجب تحديث هذا الإقرار بشكل دوري كلما ترقى الموظف أو انتقل إلى قسم جديد أو اطلع على معلومات حساسة جديدة.
2 - السياسات التحفظية والقواعد الإجرائية والداخلية
• سياسة تصنيف وأمن المعلومات: وضع سياسة داخلية واضحة تصنف البيانات (عامة، داخلية، سرية)، وتحدد كيفية التعامل مع كل فئة، مع إلزام الموظفين بتمييز المستندات الحساسة بختم «سري».
• صلاحيات الوصول المحدودة: تطبيق مبدأ «الحاجة إلى المعرفة بحيث لا يتمكن الموظف من الوصول إلا للمعلومات الضرورية لأداء مهامه فقط، وذلك عبر صلاحيات محددة على الأنظمة الإلكترونية تحدد نطاق الوصول لحماية اكبر قدر من المعلومات، ووضع على حسب كل وظيفة، لا يمكن القبول باطلاع موظف الاستقبال على معلومات مالية وقيمة الصفقات او المنتجات التي ستطرحها الشركة مستقبلا كمثال.
• التدريب والتوعية الدورية: عقد ورش عمل منتظمة لتوعية الموظفين بأهمية سرية المعلومات، وشرح التزاماتهم القانونية والتعاقدية، وتوضيح العواقب الوخيمة للتسريب.
• إجراءات إنهاء الخدمة: عند استقالة أي موظف، يجب إجراء مقابلة خروج يتم فيها تذكيره كتابياً بالتزامات السرية وعدم المنافسة المستمرة بعد تركه للعمل، والتوقيع على إقرار بإعادة جميع ممتلكات الشركة (أجهزة، مستندات).
المحور الثالث: المحاذير والمسؤوليات القانونية
عند التعامل مع واقعة تسريب، هناك محاذير ومسؤوليات يجب على الشركة إدراكها لتجنب أي تبعات قانونية عكسية.
1 - مسؤوليات الموظف (عواقب التسريب)
• مسؤولية عمالية: الفصل الفوري دون أي مستحقات نهاية خدمة.
• مسؤولية جنائية: الملاحقة القضائية بتهمة خيانة الأمانة، والتي قد تؤدي إلى الحبس والغرامة.
• مسؤولية مدنية: إلزامه قضائياً بدفع تعويضات مالية كبيرة للشركة لجبر الضرر.
• مسؤولية مهنية: تضرر سمعته المهنية بشكل بالغ، مما يعيق فرصه الوظيفية المستقبلية.
2 - المحاذير التي تواجه الشركة (مخاطر يجب إدارتها)
• عبء الإثبات وتحديد طبيعة المعلومات: تقع على عاتق الشركة مسؤولية إثبات واقعة التسريب بشكل قاطع، والأهم من ذلك، إثبات أن الموظف كان يعلم يقيناً أن المعلومات المسربة هي «سرية» أو «هامة». وهنا تبرز أهمية «إقرارات السرية المحدثة» التي أوصينا بها، حيث إن توقيع الموظف على مستند يحدد هذه المعلومات صراحةً بغلق الباب أمام أي جدل أو دفاع من قبله بأنه لم يكن يدرك طبيعتها السرية، مما يحصن موقف الشركة القانوني بشكل كبير.
• خطر دعوى الفصل التعسفي: إذا لم تتبع الشركة الإجراءات القانونية السليمة في التحقيق والفصل (مثل عدم منح الموظف فرصة للدفاع عن نفسه)، فقد يقوم الموظف برفع دعوى «فصل تعسفي»، أو باتهامه بتهمة قد تكون غير ثابتة مستنداً أو الأدلة غير كافية مما قد يكلف الشركة تعويضات مالية. لهذا السبب، فإن خطة العمل المقترحة سابقاً (الإخطار العام، التحقيق السري، ثم التحقيق الرسمي) تضمن سلامة الإجراءات.
• قابلية نفاذ شروط عدم المنافسة: على الرغم من وجودها في العقد، قد تنظر المحاكم في مدى معقولية شروط عدم المنافسة. إذا اعتبرت المدة أو النطاق الجغرافي (كامل دول الخليج) مبالغاً فيه بشكل يمنع الموظف من كسب رزقه، فقد تقضي المحكمة بتخفيضها أو عدم إنفاذها. لذا، يجب أن تكون هذه الشروط متناسبة مع منصب الموظف وطبيعة المعلومات التي يمتلكها وقيمة تلك المعلومة التي قد تسبب خطراً وضرراً للشركة بحسب نطاق عمل الشركة ووصولها لعملائها، فمن غير المفترض شركة تعمل بالكويت وليس لها أي فروع في أي دولة أخرى، وتحظر على الموظف العمل بشركة في أسواق أخرى قد تكون بعيدة وغير منافسة.
• الضرر السمعي للتقاضي العلني: قد يؤدي التقاضي العلني إلى الإضرار بسمعة الشركة، او انتشار بأن الشركة قد تسربت منها معلومات مهمة قد يقلل الثقة بالمتعاملين معها وينعكس بأن الشركة تعاني من خلل داخلي في السياسات او الثقة أو إجراءات الحماية اللازمة للاعمال حتى لو كان موقفها قوياً. يجب الموازنة بين حق التقاضي والتأثير المحتمل على صورة الشركة في السوق.
الخلاصة والتوصيات
تمتلك الشركة حقاً قانونياً قوياً ومتعدد الأوجه للرجوع على الموظف الذي تسبب في تسريب معلوماتها، وذلك عبر المسارات العمالية والجزائية والمدنية. ولتحصين الشركة مستقبلاً، نوصي بالمراجعة الدورية للبنود التعاقدية (السرية، عدم المنافسة) وتطبيق سياسات داخلية صارمة لأمن المعلومات، مع تبني آلية «إقرارات السرية المحدثة» كأداة وقائية حاسمة ووضع حواجز في الوصول الى المعلومات في الشركة لتكون تلك لكل موظف على حسب طبيعة عمله يحق له الوصول الى المناطق والمعلومات التي تخدم تلك المهام فقط والتي يقر بسريتها وعلمه بالحصول عليها ضمن هذا النطاق تقليلا لمخاطر الوقوع في مثل تلك الحالات والتعرض لها.
*رئيس تنفيذي أركان للمحاماة