لمَنْ هذه الورقة؟

نشر في 03-10-2025
آخر تحديث 02-10-2025 | 18:30
 د. محمد عبدالرحمن العقيل

دخل أستاذ الفلسفة في الموعد المنتظر للاختبار وهو يحمل بيده رزمة أوراق بيضاء، ليوزعها على طلابه الستة. وكان السؤال: «اكتب في ثلاث صفحات كيف يفهم ديكارت العلاقة بين الشك واليقين؟ وما الذي يعنيه قوله: أنا أفكر إذن أنا موجود؟».

جلس الطلاب في صمت، وبدأت الأقلام تهمس على الورق. ساعة من الزمن مرَّت، ثم جُمعت الأوراق، وخرج الأستاذ من القاعة. وفي الطريق سقطت منه جميع الأوراق، فأخذ يُلملمها ومعه المارَّة يساعدونه، وظن أنه سيرتبها كما كانت، لكنه فوجئ بعد أن عاد إلى مكتبه أن الأغلفة التي عليها الاسم والرقم الجامعي لم تكن مكبوسة بورق الإجابة، فاختلطت الأسماء والإجابات ببعضها، فشعر بارتباك وإحراج، كيف سيُعالج هذه المشكلة؟ هل يُعيد الاختبار؟ أم يرُدَّ للطلبة الأوراق ليتعرَّف كل واحدٍ منهم على ورقته؟ أم هل يستطيع بخبرته أن يتعرَّف على صاحب الإجابة؟

شعر بشيءٍ من التحدي مع نفسه، ثم سرح قليلاً، وأخذ يفكِّر بهدوء، وقال لنفسه: ما المانع؟ الشعبة متميزة ومحدودة، وأنا أعرفهم جيداً، فقد أمضيت فصلاً كاملاً أُناقشهم ويناقشونني وأستمع إلى آرائهم، حتى تشكَّلت لديّ فكرة عن كل واحدٍ منهم، والفلسفة تعبير وصفي، وليست معادلات رياضية أو رموزاً كيميائية، وفي هذه العلوم تَظهر شخصية الطالب من إجابته.

بدأ في قراءة الورقة الأولى، فلاحظ المنطق الصارم مع تسلسل الأفكار، كل فقرة تمهِّد للأخرى بتنظيمٍ هندسي واضح، كما لو كانت بنياناً فكرياً متماسكاً. فارتسمت ابتسامة على وجه الأستاذ، وشعر بنشوة من البهاء، وكأنه عرف صاحب هذا الأسلوب البنائي، الذي لا يُشبه إلا أسلوب سارة، تلك الطالبة التي طالما عرضت أفكارها بترتيب ودقة في النقاشات.

وانتقل إلى الورقة الثانية، فوجد فيها أسلوباً مختلفاً تماماً، وقد انبثقت من السطور لغة عاطفية ثرية بالصور البلاغية والاستعارات المكنية، وأفكار تتدفق بحيوية، فشعر وكأنه يسمع صوت صاحبها وهو يعبِّر عن ذاته بحرارةٍ وإخلاص، فتذكَّر أحمد، الشاب الذي كان يربط النظريات بقصصٍ من الواقع المعاصر.

بعدها انتقل للورقة الثالثة، التي اتسمت بنبرةٍ جدلية، وتحليلٍ نقديٍ عميق، صاحبها يُجادل الأفكار السائدة بجرأة، ويطرح تساؤلات فلسفية حول فرضيات السؤال نفسه. لم يساوره شك أن هذه إجابة بثينة، التي عُرفت بطريقتها التي تُحيط السؤال الأساسي بأسئلتها، وتُحاكم السؤال بسؤال. وهكذا، انتهى من تقييم جميع الإجابات، وتحديد أصحابها.

وفي موعد المحاضرة التالي، دخل الأستاذ ليُسلم الاختبارات لأصحابها، وأعطاهم عشر دقائق ليراجعوا الأجوبة، وليبدوا ملاحظاتهم. وفي هذه الدقائق العشر شعر بالقلق، لأنه وضع نفسه في امتحان استثنائي غير مسبوق.

وبعدما استقرت الأمور، وتأكد أن الكل راجع ورقته، ولم يعترض أحد، ذكر لهم ما حدث، وكيف تحوَّل الموقف من أزمةٍ مُربكة إلى تحدٍّ شيِّق في التعرُّف على بصماتهم الفكرية من غير اسم ولا توقيع.

back to top