حين يبتلعنا العمل!

نشر في 01-10-2025
آخر تحديث 30-09-2025 | 18:42
«الرجل الذي ظن أن العمل حياته» ليس مجرد عنوان، إنما سؤال مفتوح لكل مَن تساءل يوماً: هل أنا ما أعمله، أم أنني أضعت مَن أكون خلف تقارير الأداء؟ العمل مهم... لكن ذاتنا والحياة أهمّ.
 د. بلال عقل الصنديد

سبق لي أن نشرتُ مقالًا بعنوان «السرّ يكمن في كيف» في عدد «الجريدة» الصادر بتاريخ 02/08/ 2023، نصحت فيه نفسي قبل الآخرين بأن الحلول لمشكلاتنا، سواء على المستوى الشخصي أو العام، لا تأتي من مجرد تشخيصها، بل من خلال التعامل معها بمنهجية واقعية وعملية، إذ إن السؤال المحوري ليس «ما المشكلة»؟، بل «كيف نواجهها»؟ ومع ملاحظتي كيف يغرق الكثير منّا في دوامة العمل والالتزامات التي تستهلك أوقاتنا وتعيد تشكيل هويتنا، لدرجة أن تعريف هويتنا صار مرتبطًا بوظائفنا أكثر من ذواتنا، بحثتُ عن تفسير وحلول لهذه الظاهرة، فوجدت في كتاب «الرجل الذي ظن أن العمل حياته» لناومي شراغاي - ترجمة هناء خليف غني - تحليلاً عميقًا للأسباب النفسية التي تدفع الإنسان إلى الانغماس المفرط في العمل إلى حد فقدان وجوده خارج نطاق المكتب الواقعي والافتراضي.

تلفت شراغاي، من خلال خبرتها كمستشارة تنظيمية، إلى أن مكان العمل ليس مجرد فضاء للإنتاجية، بل مرآة تعكس صراعاتنا النفسية، حيث يبرز سلوك الموظفين والقيادات هشاشة داخلية غير مُعالجة، مما يحوّل بيئات العمل إلى «مسرح داخلي» يعيد تمثيل آلام الماضي تحت مظاهر احترافية.

وهذا ما دفع الكاتبة، بعد التشخيص النفسي، إلى تقديم أدوات عملية لتعزيز الوعي الذاتي، وإدارة العواطف، وبناء المرونة النفسية، منطلقة من أن الإنسان ليس مجرد أداة إنتاج، بل كائن شعوري يحتاج إلى توازن بدلاً من الاستنزاف.

يتخذ هذا الخطاب في مجتمعاتنا العربية بُعدًا أكثر حساسية، إذ إن ثقافتنا المهنية تميل إلى ربط العمل بمفاهيم الارتقاء الطبقي، وإثبات الذات أمام محيط لا يكفّ عن المقارنة والقياس، فقلّما يُسأل الفرد: «هل تجد ذاتك فيما تعمل؟»، في حين تهيمن بالمقابل الأسئلة عن الإنجاز والمردود والمكانة.

وهنا يتقاطع خطاب شراغاي مع حاجة ملحّة لمراجعة ثقافية تسأل ما إذا كان الانشغال الدائم قد تحوّل إلى وسيلة للهروب من الذات، أو ما إذا كانت الإنتاجية قد أصبحت مرآة زائفة نقيس بها قيمتنا. الكتاب لا يوجه اللوم إلى طموح الفرد، بل يضيء على مخاطر تحوّل العمل إلى هوية أحادية تسلُب الإنسان أدواره الأخرى كأب، أو ابن، أو صديق، وهو يطرح تساؤلات قلّما نجد لها إجابة: هل الإرهاق وسام شرف؟ هل الاستنزاف المهني دليل نجاح؟ وهل تقييم الفرد فقط بما ينجز، حتى لو كان الثمن ذاتًا متآكلة؟ وسط هذا الطرح، تبرز اقتباسات من الكتاب قد تلامس أو تبدّل كثيرًا من القناعات أو العادات الراسخة وتعيد تعريف النجاح، وتدعونا إلى إعادة النظر في معنى الانشغال، وجدوى اللهاث وراء المهام المتراكمة، ونذكر في السياق: «العمل جزء من الحياة، لكنه ليس الحياة نفسها»، «لا تدع عملك يستهلكك إلى درجة تنسى لماذا تعمل في المقام الأول»، «قيمتك لا تحدد بإنتاجيتك»، «من المقبول أن تأخذ استراحة، وتستعيد نفسك»، «النجاح لا يُقاس فقط بإنجازاتك الفردية، بل بقدرتك على بناء علاقات إنسانية صحية ومستقرة».

في عالمٍ تماهت فيه الحدود بين الحياة والعمل، وصار المنزل امتدادًا للمكتب، وأضحت الشاشة بديلاً عن التفاعل الإنساني، يبدو هذا الكتاب كصرخة صادقة لاستعادة الإنسان في دواخلنا.

«الرجل الذي ظن أن العمل حياته» ليس مجرد عنوان كتاب، بل سؤال مفتوح لكل من تساءل ذات مساء: هل أنا ما أعمله، أم أنني أضعت مَن أكون خلف تقارير الأداء؟ العمل مهم... لكن ذاتنا والحياة أهمّ.

* كاتب ومستشار قانوني

back to top