عصر جديد في تسوية المنازعات البحرية
لا شك في أن التحكيم البحري من أهم الأدوات القانونية لتسوية المنازعات البحرية التي تنشأ في بيئة معقدة تتسم بالتعددية القانونية والتداخل بين الأطراف المختلفة، وهو وسيلة مرنة وفعَّالة، مقارنة بالقضاء التقليدي، ومن أكثر الأدوات شيوعاً في تسوية النزاعات المتعلقة بالنقل البحري، والتي تشمل مختلف الأطراف المتعاملة في هذا القطاع الحيوي، كما أنه أداة حيوية لتحقيق العدالة وحماية الحقوق في القطاع البحري، حيث يُتيح مرونة وسرعة في تسوية النزاعات التي قد تعوق سير العمليات التجارية.
ونظراً لهذه الأهمية الكبيرة للتحكيم البحري، وفي ظل التطور السريع للتكنولوجيا، وانتشار الذكاء الاصطناعي (AI)، بدأت قواعد اللعبة تتغيَّر وتتطوَّر في التحكيم البحري، وأصبحت هناك حاجة ماسَّة لمواكبة هذا التطوُّر التكنولوجي، لأنه في عالم البحار يمكن لكل دقيقة أن تصنع الفارق بين الربح والخسارة، وبين حل النزاع أو تعقيده. ومع الثورة الرقمية، التي يقودها الذكاء الاصطناعي، لم يعد التحكيم البحري حبيس الملفات الورقية والمحاضر الطويلة، بل أصبح ميداناً تكنولوجياً يعتمد على تحليل البيانات في لحظات، ورسم صورة أوضح للحقيقة. فتخيَّل أن نزاعاً بحرياً بين شركتين يمتد عبر قارات يتضمَّن عقوداً ومراسلات وأدلة فنية، يمكن أن يستغرق شهوراً في التحليل اليدوي. أما في هذا الوقت، فإن أنظمة الذكاء الاصطناعي قادرة على مسح آلاف الصفحات في دقائق، وتصنيفها وفق أهميتها، من تحليل بيانات حركة السفن عبر الأقمار الصناعية، وأنظمة التتبع (ais) لتحديد الأحداث بدقة زمنية ومكانية، وتقديم مؤشرات تنبؤية لمسار النزاع، استناداً إلى آلاف القضايا المشابهة عالمياً.
بالنسبة للكويت، التي تحتل موقعاً بحرياً وتجارياً محورياً في الخليج، فإن تبني هذه التقنيات سيُسهم في تسريع البت في النزاعات المرتبطة بالشحن والموانئ، وتقليل التكاليف على الأطراف المتنازعة، ورفع مستوى الشفافية والموثوقية في قرارات التحكيم، لكن كما هو الحال مع أي تقنية جديدة، يبرز تساؤل مشروع، هو: كيف نؤهل الكوادر القانونية للتعامل مع هذه الأدوات ومع هذا التطوُّر التكنولوجي المتسارع؟ الجواب يكمن في أن الذكاء الاصطناعي ليس بديلاً عن المحكم البشري، إلا أنه شريك يُضاعف من قدرة المحكم البشري على فهم الحقائق، ويقلل الوقت والتكاليف بشكلٍ كبير، ويُسهم في تحسين دقة القرارات، من خلال تقديم معلومات وتحليلات أفضل للمحكِّم، ويمكن أن يُحدث نقلةً نوعيةً في كل مراحل التحكيم البحري.