الإعلام بين الرسالة والفتنة

نشر في 26-09-2025
آخر تحديث 25-09-2025 | 18:22
 رويد بوناصر الدين

يُثار اليوم سؤالٌ جوهريٌّ يتجاوز حدود الجدل السياسيِّ والإعلاميِّ: هل الخطر على حرية الإعلام، أم أنّه يكمن في حرية الإعلام نفسها حين تُمارس بلا ضابطٍ ولا وازعٍ من ضمير؟

فالحرية، وإن كانت تاجَ القيم الإنسانية، ليست في جوهرها انفلاتاً بلا حدود، بل هي مسؤولية دقيقة يحكمها الضمير الإنساني، فهي أشبه بالنور: إن انضبط أضاء الحقيقة وكشف الزيف، وإن انفلت صار لهيباً حارقاً يعمي الأبصار ويأتي على كلِّ شيء. والإعلام مُنح الحرية ليكون عين المجتمع ومرآة الحقيقة، ولكنه في أيدي بعض الطارئين يتحوّل إلى سوقٍ للابتذال، ومنصةٍ للتحريض، ووسيلةٍ للفتنة والابتزاز.

وأخطر من الأفراد هم المنابر التي فتحت شاشاتها وأعمدتها للوجوه الاستفزازية، مستفيدةً من سلطة الإعلام التي تفوق بنفوذها كلَّ السلطات الأخرى، تصوغ الرأي العام، وتقلب الموازين، وتحرّك الأزمات أو تهدئها بكلمةٍ واحدة، فتتحكم في الرأي وكأنها السلطة العليا.

ومع انفجار وسائل التواصل الاجتماعي، بلغ الخطر أوجه. صار كلُّ فرد، صغيراً كان أم كبيراً، جاهلاً كان أم مثقفاً، صانعاً أو ناقلاً للخبر، فغلب التضليل الحقيقة، حتى باتت هذه الوسائل قنابلَ موقوتةً في متناول الجميع. وهنا يبرز واجب الدول في سنّ قوانين صارمة، تُجرّم الكذب والتحريض، وتضاعف العقوبات على من يعبث بوعي الناس وأمن المجتمع.

لقد عرفت الصحافة العربية منذ نشأتها وجهاً أكثر إشراقاً ورقيًّا، فلم تكن مجرد ناقلٍ للأحداث، بل منبراً أدبياً وفكرياً وروحياً. كتب على صفحاتها طه حسين، والعقاد، والكواكبي، والريحاني، فكانت الصحف تُقتنى وتُصان كمرجعٍ للثقافة والمعرفة. ومن لبنان انطلقت أقلامٌ إلى المهجر أسهمت في نهضة فكرية واسعة، فأسّس إبراهيم اليازجي صحيفة “الهدى” في نيويورك، وأطلق سليم تقلا مجلة “المقتطف” في مصر، وأبدع إيليا أبوماضي في مقالاته ومجلاته. كانت الكلمة عندهم رسالةً سامية، والصحافة مدرسةً حقيقية، لا مكان فيها للابتذال ولا للضجيج.

ومن هنا يبرز التمني أن تتحمّل الحكومات مسؤولية الرقابة بوعي وحكمة، فلا تُقيّد الحرية، بل تحميها من الانحراف، وأن يُشترط في الإعلامي، كما في الطبيب، أن يكون أميناً على العقول قبل أن يكون بارعاً في أدواته، حافظاً للضمير، وصانعاً للوعي.

فالحرية الإعلامية ليست امتيازاً عابراً، بل عهدٌ أخلاقيٌّ، والإعلام، إن صلح، صلح المجتمع، وإن فسد فسد كل شيء.

back to top