دعم البحث العلمي واستقطاب الباحثين والمتخصصين في مجال الذكاء الاصطناعي
البحث العلمي في مجال الذكاء الاصطناعي يمثل حجر الأساس لبناء منظومة متكاملة ومستدامة في هذا القطاع، إذ إن جودة النماذج والتقنيات المستخدمة ترتبط بشكل مباشر بمدى قوة الأبحاث التي تقف خلفها.
على سبيل المثال، أظهرت تقارير Stanford HAI مثل Al Index Report أن التطورات المتسارعة في قدرات النماذج اللغوية الكبيرة (LMS) نتجت عن تراكم طويل الأمد في مجالات مثل بنية الشبكات العصبية خوارزميات التعلم العميق، وتوسع قدرات الحوسبة والبيانات.
كما أن دراسات من MIT تناولت كيفية استرجاع النماذج اللغوية الكبيرة للمعرفة المخزنة وكيفية تعميمها عبر أنواع مختلفة من البيانات مما يوضح الدور الحاسم للأبحاث الأساسية في تحسين هذه النماذج وفهم بنيتها الداخلية.
هذا النوع من البحث لا يؤدي فقط إلى تحسين الأداء، بل يساهم أيضاً في تطوير بيئة آمنة وأخلاقية للذكاء الاصطناعي، عبر مجالات مثل حوكمة الذكاء الاصطناعي وتقليل الانحيازات الخوارزمية.
كما أن الاستثمار في البحث العلمي بمجال الذكاء الاصطناعي يعزز من المنظومة البيئية للابتكار (Al ecosystem)، حيث يخلق جسوراً بين الجامعات ومراكز الأبحاث والشركات الناشئة والقطاع الحكومي.
هذه الروابط تؤدي إلى تسريع تحويل الأبحاث النظرية إلى منتجات وخدمات تجارية قادرة على المنافسة العالمية. وتجربة الاتحاد الأوروبي مع برنامج Horizon Europe خير مثال، إذ ربط البحث العلمي في الذكاء الاصطناعي مباشرة بدعم الشركات الناشئة والقطاع الصناعي، مما جعل القارة أكثر تنافسية في مجالات الروبوتات الصحة الرقمية، والمدن الذكية وعليه فإن تعزيز الأبحاث في الذكاء الاصطناعي لا يطور التكنولوجيا فحسب، بل يؤسس نظاماً بيئياً متكاملاً يجذب المواهب، ويدفع الاستثمارات، ويضع الدولة في موقع قيادي إقليمياً وعالمياً.
برنامج وطني لمهارات الذكاء الاصطناعي والقوى العاملة
إطلاق برنامج وطني لمهارات الذكاء الاصطناعي في الكويت يمثل خطوة محورية لبناء قوة عمل قادرة على المنافسة إقليمياً ودولياً، وتحويل التحديات التكنولوجية إلى فرص للنمو التجارب الدولية، مثل برنامج Digital Europe أظهرت أن الاستثمار المنهجي في تدريب العاملين والطلبة على المهارات الرقمية والذكاء الاصطناعي مع التركيز على إعادة تأهيل القوى العاملة (Upskilling) في القطاعات عالية الطلب كتحليل البيانات والأمن السيبراني وتشغيل مراكز البيانات يسهم في تقليل فجوة المهارات ورفع جاهزية الاقتصادات الوطنية لمواكبة التحولات الرقمية.
إقليمياً، قدمت الإمارات نموذجاً رائداً عبر استراتيجية الإمارات للذكاء الاصطناعي 2031 التي تضمنت محور «الوظائف الممكنة بالذكاء الاصطناعي»، وأطلقت برامج عملية مثل Al Summer Camp الذي درب آلاف المشاركين منذ 2018، إلى جانب مبادرة مليون مبرمج عربي لتمكين الشباب من أساسيات البرمجة والذكاء الاصطناعي.
وبالمثل، نفذت السعودية استراتيجيتها الوطنية للبيانات والذكاء الاصطناعي (NSDAI) عبر أكاديمية سدايا، حيث دربت أكثر من 334 ألف سعودي في مجالات مثل التعلم الآلي وحوكمة البيانات، ما جعل التدريب جزءاً أساسياً من رؤية 2030 لمعالجة فجوات المهارات وتعزيز الاقتصاد الرقمي.
انطلاقاً من هذه النماذج، يمكن للكويت تصميم برنامج وطني يقوم على ثلاث ركائز مترابطة:
أولاً، دمج مهارات الذكاء الاصطناعي في التعليم التقني والجامعي عبر مساقات في البرمجة وعلوم البيانات وأخلاقيات الذكاء الاصطناعي مع تطبيقات عملية في الأمن السيبراني وتشغيل مراكز البيانات.
ثانياً، تقديم حوافز ضريبية وتمويل للشركات لإعادة تأهيل موظفيها مع ربط الدعم بمؤشرات أداء قابلة للقياس مثل معدلات الانتقال إلى وظائف تقنية وتحسين الإنتاجية.
ثالثاً، إنشاء مرصد وطني لمهارات الذكاء الاصطناعي يقيس دورياً أثر التقنيات على سوق العمل ويوجه الموارد نحو المهارات الأكثر طلباً.
وبتبني هذا النهج، يمكن للكويت تحويل الذكاء الاصطناعي من تهديد وظيفي محتمل إلى محرك رئيسي للنمو الاقتصادي والابتكار المستدام.
تطوير المناهج وتطوير التعليم لمواكبة متطلبات سوق العمل في ظل الذكاء الاصطناعي
أثبتت التجارب الدولية، وعلى رأسها خطة البيت الأبيض للذكاء الاصطناعي (2025)، أن تطوير المناهج التعليمية يعد ركيزة أساسية الإعداد قوة عمل قادرة على التكيف مع التحولات التكنولوجية المتسارعة فقد ركزت الخطة الأميركية على دمج مفاهيم الذكاء الاصطناعي وعلوم البيانات والتفكير الحسابي ضمن التعليم الأساسي والعالي، إلى جانب الاستثمار في تدريب الكوادر التعليمية على أحدث الأدوات الرقمية.
هذا التوجه يضمن ليس فقط رفع مستوى الوعي التكنولوجي لدى الطلبة، بل أيضاً تزويدهم بالمهارات العملية التي يحتاجها سوق العمل في عصر الذكاء الاصطناعي.
في السياق الكويتي، يمثل تطوير المناهج فرصة استراتيجية لتحويل التحديات التكنولوجية إلى محركات للنمو والابتكار.
إذ يمكن إدخال مساقات إلزامية في البرمجة وتحليل البيانات منذ المراحل الدراسية المبكرة، وتعزيز التعليم التطبيقي بالشراكة مع الجامعات ومراكز الأبحاث العالمية.
كما يجب التركيز على إعداد مسارات تعليمية متخصصة في الذكاء الاصطناعي على مستوى التعليم العالي، مدعومة ببرامج تدريبية عملية داخل القطاعات الحيوية مثل الصحة والطاقة والخدمات المالية.
هذا النهج سيؤدي إلى بناء جيل من الكفاءات الوطنية المؤهلة، القادرة على قيادة الكويت نحو اقتصاد معرفي متنوع، وترسيخ مكانتها كمركز إقليمي في مجال الذكاء الاصطناعي.
إنشاء تأشيرة عمل من شأنها استقطاب الكفاءات الدولية
تشير الأبحاث الاقتصادية إلى أن استقطاب الكفاءات عالية المهارة يساهم بشكل مباشر في رفع معدلات النمو الاقتصادي وزيادة القدرة الابتكارية للدول.
فبحسب ورقة بحثية صادرة عن المكتب الوطني للأبحاث الاقتصادية (NBER)، فإن المهاجرين ذوي المهارات العالية ساهموا بنحو 23 من براءات الاختراع في أميركا، ومع التأثيرات غير المباشرة عبر التعاون مع الباحثين المحليين ارتفعت مساهمتهم إلى 32% من الابتكار الكلي. كما توضح دراسة من Columbia Business School أن هذه الكفاءات لا تزاحم القوى العاملة المحلية، بل تعزز ريادة الأعمال، ونقل المعرفة، ورفع الإنتاجية، خاصة في البيئات التي تستثمر بشبكات المواهب.
هذه النتائج تدعم النظرية الاقتصادية للنمو الداخلي التي ترى أن رأس المال البشري والمعرفة والابتكار هي المحركات الرئيسية للنمو على المدى البعيد.
وإن أردنا أن نحول الكويت إلى مركز إقليمي للذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا، فإن تبني تأشيرة خاصة لاستقطاب الكفاءات عالية المهارة سيكون خطوة استراتيجية.
هذه السياسة ستجذب العلماء والمهندسين ورواد الأعمال من مختلف دول العالم، مما يرفع منسوب رأس المال البشري النوعي، ويعزز بيئة الابتكار وريادة الأعمال المحلية، ويمكن الكويت من قيادة المنطقة في صناعة الذكاء الاصطناعي.
فكما أظهرت الدراسات أن الاستثمار في المواهب هو عنصر حاسم في تعزيز التنافسية العالمية، فإن الكويت بفضل موقعها الجغرافي وإمكاناتها الاقتصادية قادرة على أن تجعل من هذه التأشيرة أداة جوهرية لترسيخ موقعها كوادي السيليكون» للشرق الأوسط.
الختام
في الختام، يمثل هذا المقال تحليلاً وتنبيهاً للحالة الاقتصادية الدقيقة التي يشهدها العالم اليوم نتيجة التحولات العميقة التي يفرضها الذكاء الاصطناعي على طبيعة الاقتصاد الدولي.
ومن هذا المنطلق، فإننا ندعو الحكومة والجهات المسؤولة إلى تبني استراتيجية وطنية شاملة للذكاء الاصطناعي، تدرج كإحدى أهم الأولويات في المرحلة الراهنة، باعتبارها أداة أساسية لتحقيق تنويع اقتصادي مستدام بعيداً عن الاعتماد الأحادي على القطاع النفطي.
إن الحلول الأولية التي تمت مناقشتها في هذا المقال يجب أن تنظر إليها على أنها نقاط انطلاق تأسيسية ضمن إطار خطة وطنية متكاملة، تبنى على البحث العلمي، تطوير المهارات وتحفيز الابتكار وريادة الأعمال.
ومن خلال هذه الركائز يمكن للكويت أن تتحول إلى مركز إقليمي وعالمي في مجال الذكاء الاصطناعي، بما يعزز مكانتها الدولية ويتيح لها أن تكون ضمن العواصم الرائدة في الثورة الصناعية الرابعة، مستفيدة من موقعها الجغرافي وإمكاناتها البشرية والاقتصادية للقيادة مستقبل الاقتصاد المعرفي.
قائمة المراجع
1. صندوق النقد الدولي، "الذكاء الاصطناعي سيُحدث تحولاً في الاقتصاد العالمي"، يناير 2024.
2. بريغز، جوزيف، کودناني، ديفيش الذكاء الاصطناعي التوليدي قد يزيد الناتج المحلي الإجمالي العالمي بنسبة 7%"، غولدمان ساكس للأبحاث 2023.
3. معهد ماكنزي العالمي، الإمكانات الاقتصادية للذكاء الاصطناعي التوليدي جبهة الإنتاجية الجديدة"، يونيو 2023.
4. دارون عاصم أو غلو، "التأثيرات المحتملة للذكاء الاصطناعي التوليدي على سوق العمل والأجور وعدم المساواة في الولايات المتحدة، مجانت الاقتصاد، 2023.
5. فيليب أغيون، بنيامين جونز، "الذكاء الاصطناعي كموجة أتمتة جديدة: تحولات الاقتصاد العالمي وإعادة توزيع الدخل"، المكتب الوطني للبحوث الاقتصادية، 2023.
6. مكتب إحصاءات العمل الأمريكي، "حالة توظيف خريجي الكليات الجدد وحملة الشهادات الحديثة"، يناير 2025.
7. فيكتور هوانع، إن بينغ تشينغ، انخفاض فرص العمل والتعيينات في عام 2023 مع تباطؤ سوق العمل الأمريكي"، المجلة الشهرية للعمل بمكتب إحصاءات العمل الأمريكي، 2024.
8. البيت الأبيض، "خطة العمل الأمريكية للذكاء الاصطناعي"، يوليو 2025.
9. مجلة ماجينيتيف داخل استراتيجية الصين الحكومية لاستثمار 8.2 مليار دولار في الذكاء الاصطناعي، 2025.
10. حكومة الصين الصين تسرع تطوير الذكاء الاصطناعي لبناء مركز ابتكار"، ابريل 2024.
11. حكومة المملكة المتحدة، رئيس الوزراء يطلق معهد السلامة في الذكاء الاصطناعي"، نوفمبر 2023.
12. حكومة المملكة المتحدة، تأشيرة الأفراد ذوي الإمكانات العالية: الأهلية"، أكتوبر 2024.
13. مجلس البحوث البريطاني للابتكار، استثمار" بقيمة 100 مليون جنيه إسترليني في معهد ألان تورينغ"، 2024.
14. وزارة الابتكار والعلوم والتنمية الاقتصادية الكندية، "إستراتيجية كندا الوطنية للحوسبة السيادية في الذكاء الاصطناعي"، مارس 2025.
15. رويترز، ماكرون "يشير إلى استثمارات بقيمة 109 مليار يورو في الذكاء الاصطناعي بحلول 2030"، فبراير 2025.
16. قناة سي إن بي سي، "استجابة فرنسا لـ Stargate: ماكرون يعلن عن استثمار في الذكاء الاصطناعي"، فبراير 2025.
17. مجلة نيتشر لمبادرة الهند لتعزيز الذكاء الاصطناعي بقيمة 1.25 مليار دولار"، 2024.
18. موقع ذا جريت يونيكورن هانت "مبادرة الهند للاستثمار في تطوير الذكاء الاصطناعي بقيمة 1.25 مليار دولار"، 2024.
19. Policy Navigator، السعودية تخطط لاستثمار 100 مليار دولار في الذكاء الاصطناعي"، 2025.
20. بنك الكويت الوطني 2.5% انخفاض الناتج المحلي بالربع الثالث من 2024 جريدة الجريدة، يناير 2025.
21. بي دبليو سي الشرق الأوسط الأثر المحتمل للذكاء الاصطناعي في الشرق الأوسط"، لندن: برايس وترهاوس كوبرز، 2018.
22. منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية "الحوكمة بالذكاء الاصطناعي"، "، سبتمبر 2025.
23 منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية المحة عامة عن الاستراتيجيات والسياسات الوطنية للذكاء الاصطناعي"، أغسطس 2023
24. وزارة الاقتصاد الإماراتية "الإمارات تواصل ريادتها الإقليمية في مؤشر الابتكار العالمي 2022 وتصعد مركزين إلى المرتبة 31 عالمية"، سبتمبر 2022.
25. هيئة حكومة التكنولوجيا السنغافورية، "جهود الحكومة الرقمية في سنغافورة"، أغسطس 2025.
26. شركة جدوى (صندوق الصناديق)، من نحن"، الموقع الرسمي، 2025.
27. Saudipedia شركة صندوق الصناديق (جدوى)"، مايو 2024.
28. صندوق منطقة دبي للمستقبل، "الموقع الرسمي"، 2025.
29. هب، 71 منظومة أبوظبي التقنية العالمية الفريدة"، 2025.
30. جهاز الاستثمار العماني التقرير السنوي 2024 النسخة الرقمية، صفحة 10,2024.
31. معهد ستانفورد للذكاء الاصطناعي المرتكز على الإنسان، "تقرير" مؤشر" الذكاء الاصطناعي 2025"، ابريل 2025.
32. معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، "منشورات مختارة في الذكاء الاصطناعي والنماذج اللغوية الكبيرة"، 2024-2025.
33. المفوضية الأوروبية، "برامج هوريزون أوروبا للبحث والابتكار"، 2023-2025.
34. الاتحاد الأوروبي، برامج أوروبا الرقمية"، 2023-2025.
35. وزارة الذكاء الاصطناعي الإماراتية، "إنجازات استراتيجية الإمارات للذكاء الاصطناعي 2031 ومبادرة مليون مبرمج عربي، 2024-2025.
36. الهيئة السعودية للبيانات والذكاء الاصطناعي (سدايا)، التدريب والتمكين في إطار الاستراتيجية الوطنية للبيانات والذكاء الاصطناعي"، 2025.
37. بيرنستاين، إس، دایموند، ر، جیرانافاویبوون، أ، ماکوادي ت، بوسادا، ب، لمساهمة المهاجرين ذوي المهارات العالية في الابتكار الأمريكي، المكتب الوطني للبحوث الاقتصادية، 2023.
38. مؤسسة تكنولوجيا المعلومات والابتكار المخترعون المهاجرون ينتجون 23 من براءات اختراع الولايات المتحدة"، يوليو
39 تاريك، إ، جوزمان، ج، وانغ، د، "الهجرة عالية المهارة تعزز ريادة الأعمال الإقليمية، كلية كولومبيا للأعمال، المجلة الوطنية للعلوم"، 2024.
40. كلية كولومبيا للأعمال، كيف يعزز المهاجرون ذوو المهارات العالية نمو الوظائف والابتكار الأمريكي، 2024.
41. إيرليش، إ، كيم، ج، "الهجرة وتكوين رأس المال البشري والنمو الاقتصادي الداخلي"، مجلة رأس المال البشري، المكتب الوطني للبحوث الاقتصادية" 2015.
42. معهد بحوث العمل (IZA) الهجرة وتكوين رأس المال البشري والنمو الاقتصادي الداخلي، 2015.
* باحث اقتصادي