قرارات على «سرير بروكرست»

نشر في 23-09-2025
آخر تحديث 22-09-2025 | 19:39
 حسن العيسى

في مشهد يتكرر باستمرار في السياسة الحكومية، مازال كثير من قراراتها يصدر دون أن يمرّ بحدٍّ أدنى من الفحص أو التقدير للنتائج المترتبة عليه. القرارات تُتخذ، ثم يتكفل الواقع بتصحيحها - إن أُتيح له الوقت والمساحة - أو تصدر قرارات أخرى، وفيما بعد تُرقّع بعض الأضرار التي حدثت.

في تقريره الأخير، وجّه مركز الشال الاقتصادي نقداً حاداً لتعميم الهيئة العامة للصناعة بشأن وقف إجراءات التنازل عن التراخيص الصناعية وعقود القسائم المرتبطة بها. قرار مفاجئ، بلا تفسير واضح أو أهداف معلنة، ودون تفرقة بين المستثمر الملتزم والمخالف، أو حتى أي قيد زمني يراعي خصوصية الاستثمارات الطويلة الأجل. وكأن المنطق غائب، أو بالأحرى مُغيّب.

بحسب تقرير «الشال»، فإن بيئة الاستثمار في البلاد طاردة حتى قبل صدور هذا القرار. نحن في ذيل قائمة دول الخليج في جذب الاستثمارات الأجنبية، لا بل إن الاستثمار المحلي ذاته بات يفرّ من عنق الزجاجة، قبل أن نحلم بتدفق رؤوس الأموال من الخارج.

الأمر لا يتوقف عند الطرد غير المباشر، بل يصل إلى تقويض مباشر للثقة، فالبنوك ومعاملاتها تتأثر، على غرار ما حدث سابقاً مع قرارات سحب الجنسية. لا استقرار قانونياً، ولا وضوح في الرؤية، ولا حتى إشارات تطمئن المستثمر بأن أرضه التي بنى عليها مشروعه لن تُسحب أو تُجمّد بلا مقدمات.

قرار الهيئة أشبه بـ «مسطرة عمياء» لا تميّز ولا تعقل. يساوي بين المخطئ والبريء، بين مَن التزم بشروط الاستثمار ومَن خالفها. إنه قرار يشبه في رمزيته سرير بروكرست الإغريقي، ذلك السرير الخرافي الذي كان صاحبه يقطع أرجل الضحية إن زاد طولها عن المقاس، أو يشدّها قسراً إن قصرت، حتى تتطابق مع الطول المفروض مسبقاً، لا مع الواقع.

إنها عقوبة جماعية بكل معنى الكلمة، تُسقِط الجميع تحت رحمة قرار بلا عدالة، ولا منطق، ولا رؤية.

لا يمكن تجاهل أن هذه السياسات ــ أو غيابها ــ أدى إلى زيادة العجز في الميزانية، وهروب المستثمر المحلي، والإمعان في الإدمان على صادرات النفط كمصدر وحيد للدخل. أين خطط التنويع؟ أين البرامج الوطنية الجادة؟ أين أمور كثيرة لا جدوى من تكرارها؟ فليس هناك مَن ينصت.

إلى أين تأخذنا مثل هذه القرارات؟ وهل نملك بعدُ رفاهية الوقت لنستمر في إصدار قرارات من ورق، تقصّ أقدام النمو، وتشد اقتصاد البلد على سرير أسطوري لا يناسب حجمه ولا واقعه؟!

back to top