وليد جنبلاط: خمسون عاماً من العقلانية

نشر في 22-09-2025
آخر تحديث 21-09-2025 | 19:01
 رويد بوناصر الدين

النقدُ الذي يُوجَّه اليوم إلى وليد جنبلاط على خلفية أحداث السويداء مفهومٌ عاطفياً، ومُبرَّر إنسانياً، فالمجازر والدماء لا تُقابَل إلا بالغضب والحزن. غير أن الإنصاف يفرض نظرةً أوسع من اللحظة الآنية، وتأملاً أعمق في مسيرة نصف قرن من التجربة السياسية. فهذا الرجل لم يَختر قراراته ليُرضي الانفعال، بل آثر أن يضع العقل فوق العاطفة، وأن يسلك الطريق الأصعب إذا كان فيه خلاص طائفته.

في آذار 1977، اغتيل كمال جنبلاط، فاشتعلت النفوس غضباً، وكان الثأر مطلب الجموع. لكن وليد جنبلاط، في أول امتحان لمسؤوليته، اختار مع شيخ العقل وقف المجازر بحق الأبرياء. وبعد أربعين يوماً قصد دمشق، ليصافح الرئيس حافظ الأسد، وهو يدرك أن أصابع الاتهام تشير إليه.

لم يكن ذلك استسلاماً، بل كان إدراكاً أن المواجهة كانت ستقود الطائفة إلى كارثة، فغَلَب العقلُ قلبَ الابن، ورسم منذ تلك اللحظة نهجاً قوامه الحِكمة والتضحية.

وخلال الحرب الأهلية، وما تلاها، ظلَّ جنبلاط ثابتاً على هذا النهج. حمى الجبل من التفتُّت، وأعاد إدماج الدروز في مؤسسات الدولة بعد اتفاق الطائف. ثم جاءت مصالحة الجبل مع البطريرك صفير عام 2001، فواجه اعتراضات من دمشق ومن داخل بيئته، لكنه أصرَّ على طي صفحة الجراح وتكريس الشراكة مع المسيحيين، مؤكداً أن حماية الجبل تتقدَّم على كل حساب سياسي ضيق. تبدَّل تموضعه حين اقتضت مصلحة طائفته ذلك: كان ركناً في انتفاضة الاستقلال عام 2005، ثم ابتعد عن 14 آذار 2011 خشية انزلاق الدروز إلى صراعٍ إقليمي يتجاوز قُدرتهم. وفي 7 أيار 2008 حين اجتاح حزب الله بيروت والجبل، اختار التهدئة على المواجهة، متحمَّلاً اتهامات الانكسار، لكنه أنقذ الطائفة من حرب أهلية مؤكدة.

واليوم، في أحداث السويداء، يتكرَّر المشهد نفسه: تعاطف مع أهله، وسعى لمساعدتهم سياسياً ومالياً، لكنه رفض الانجرار إلى مواجهة عبثية، مدركاً أن الانفعال يقود إلى الخراب، وأن الحكمة وحدها تحمي الوجود.

خمسون عاماً من الزعامة جعلت وليد جنبلاط عُرضةً للنقد من حلفاء وخصوم، لكنه بقي وفياً لبوصلة واحدة: حماية الدروز. فالقائد الحق ليس مَنْ يساير جمهورَه، بل مَنْ يملك شجاعة القرار الصعب. ومنذ اغتيال والده حتى السويداء، أثبت أنه الزعيم الحكيم، المُخلص لطائفته، الذي يقدِّم مصالحها على زعامته وحياته الخاصة. إنه بحق يُشبه الرجلَ الذي جاء من أقصى المدينة يقول: يا ليت قومي يعلمون...

back to top