تسقط المدن وتسلب الأرواح
تسقط المدن عندما تتشوَّه بالفعل المكرَّر، نفس نمط العُمران، نفس المباني الشاهقة، نفس المراكز التجارية، وفي الكثير من الأحيان تحمل نفس الأسماء، أو أنها فرع لذاك المركز في تلك المدينة شديدة القُبح.
تسقط المدن أيضاً عندما تستيقظ في الصباح ولا تعرف من المشهد خارج غرفتك بذاك الفندق ذي النجوم الخمس في أي مدينةٍ أنت. تتوقف ربما ليستيقظ عقلك، وتُعيد تحريك كل الصور المخزنة، لتعرف الإجابة عن السؤال: «أي مدينة هذه؟».
تسقط المدن عندما تتشابه حتى في تفاصيلها الصغيرة، ربما نفس نوع الشجرة التي تزرع هنا، أو تغرس «عمداً»، هي هي في كل مدينة أخرى.
تسقط المدن عندما تفقد روحها وعبقها، وتتحوَّل رائحة جُدرانها إلى نفس النوع من ذاك الطلاء الذي تتصدَّى إعلاناته الكثير من اللوحات الضخمة في الشوارع، إنتاج تلك الشركة العابرة للحدود والقارات والبحار.
وكما للمدن لحظات سقوط عندما تتحوَّل إلى نمطٍ واحد بضوضاء متشابهة، مثلها يحصل عند البشر، أي البني آدمين، فهم أيضاً تُسلب منهم روحهم، أو تتلوَّث أو تُنتزع. فالروح، كما علَّمنا التاريخ، ليست محصَّنة، بل قد تُسلب تدريجياً تحت ضغط السُّلطة، أو سطوة الجماعة، أو إغراء النماذج الجاهزة التي توفر للفرد راحة من مواجهة ذاته أو ضميره، أو حتى مبادئه، وربما دينه. وهكذا يتحوَّل المرء مع الزمن من كائن متفرِّد يحمل بصمته الخاصة إلى نسخةٍ مكرَّرة ضمن حشدٍ يكاد يتطابق في الشكل والمضمون، حتى إنهم أحياناً لا يستطيعون إيجاد مُفردات مختلفة ليستفردوا هم بها، أو يبعدوا عنهم صفة الفرد ضمن «القطيع»!
وكما في حال المدن، حيث يكون التحوُّل تدريجياً، إلا ربما نادراً، عندما تهجم «البلدوزرات» لتفترس الحجر بذاكرته، إيذاناً بمشروعٍ قادم من بائع الوهم القادم من بعيد، فالإنسان كثيراً ما يرفض التخلي الطوعي عن استقلاليته أو فرديته أو خصوصيته، لكنه في كثيرٍ من الأوقات يتحوَّل من دون أن يعرف وعلى مدى تراكمات من تجارب ودروس ومواعظ أو إغراءات! مثلما وصف كثير من الفلاسفة والباحثين هذه الظاهرة، أي فقدان الروح أو سقوطها. فمثلاً، انتقد بعضهم المجتمعات الصناعية الحديثة، لأنها - كما قالوا - تُحوِّل الفرد إلى «كائنٍ ذي بُعد واحد» غارق في الاستهلاك والطاعة، حتى عندما يتصوَّر هو أنه يملك حُرية الاختيار، فيما هو يكرِّر النمط الجاهز المُعلَّب، أو ربما المفروض عليه/ عليها.
وربما سقوط المدن هو إيذان بسقوط البشر بأرواحهم الذاتية المُستقلة، كما قال ابن خلدون «الإنسان ابن عوائده ومألوفه»، فحين يتبدَّل العُمران، ويتحوَّل النمط الاجتماعي يتبدَّل الناس معه، حتى يفقدوا شيئاً من طبائعهم الأصلية، ويتحوَّلون إلى جماعة متشابهة خاضعة لسُلطة الغالب، وهي تأتي بشكلٍ تدريجي، وحينها يُصبح الجميع على هيئة واحدة، يلبسون كما يُملى عليهم، ويتكلمون بنفس المصطلحات الرائجة، ويفكرون في حدود المسموح به من النماذج المهيمنة.
يسقط البشر عندما يُحاصرهم الخوف والانبهار أيضاً في عصر الصورة، فتتحوَّل الحياة كُلها إلى مشهد، ويقسم الأفراد بين متفرجٍ وصانعٍ للصورة والحدث! ألم يقل الجاحظ قبل عقود وعقود إن الفرد ينقاد لمحاكاة مَنْ يملك السُّلطة والسطوة؟ حتى لو كان ذلك على حساب كل شيء، كان يمثل الإنسان في فرديته وشخصه وأخلاقه وطباعه ودينه أيضاً، ألم يتحوَّل الدِّين في أوطاننا إلى طقوسٍ فقط، وفقد روحه هو الآخر؟!
يسقط الإنسان أو يفقد روحه عندما تتسرَّب إلى تفاصيل حياته اليومية المظاهر العامة الطاغية المغمسة بكثيرٍ من الخوف، إما من السُّلطة، أو من المجتمع، فيقوم هو بإعادة إنتاج تلك السطوة أو الثقافة الطاغية عبر المدرسة، أو مكان العمل، أو العائلة، أو شلة الأصدقاء والمقرَّبين!
تطاردني كل تلك الأفكار كلما زُرت مركزاً تجارياً، كنسخة مصغرة من مُدننا، ببشرها الحداثيين، حيث لا روح هناك، بل جماعات بنفس الشكل والمظهر والتصرُّفات!
كما تسقط المدن تسقط الأرواح.
* يُنَشر بالتزامن مع الشروق المصرية