التعليم... قضية أمن وطني وإصلاح بنيوي

نشر في 22-09-2025
آخر تحديث 21-09-2025 | 18:31
 محمد الجارالله

مع مطلع كل عام دراسي تستقبل الكويت أكثر من نصف مليون طالب وطالبة في مدارسها الحكومية والخاصة. هذا الرقم ليس مجرّد إحصاء، بل مؤشر استراتيجي يعكس حجم التحدي الوطني. التعليم ليس موسماً ينتهي بجرس الحصة الأخيرة، ولا بنداً مالياً عابراً، بل البنية التحتية للإنسان والمصدر الذي تتشكل منه كل قدرات الدولة: من الصحة إلى الاقتصاد ومن الأمن الوطني إلى الابتكار.

الأمم التي وضعت التعليم في قلب مشروعها الوطني قفزت إلى مصافّ الريادة حتى لو كانت مواردها محدودة، بينما تلك التي استهانت به بقيت رهينة التخلف والهشاشة، رغم وفرة الثروات.

الصحة ليست غياب المرض، بل حالة من السلامة البدنية والنفسية والاجتماعية، والتعليم شرط سابق لكل عافية. الأمثلة العالمية كثيرة: الدول الإسكندنافية جعلت مدارسها فضاءات صحية وتربوية في آن، فخرّجت أجيالاً أطول عمراً وأكثر إنتاجية وأوطاناً أقل كلفة صحية. في الكويت ما زالت هذه الرؤية غائبة، المدارس في معظمها تقليدية تلقينية، منفصلة عن الصحة والتغذية، لا تهيئ الطالب لحياة عملية أو سلوك صحي أو إنتاج اقتصادي.

المال ينفد والنفط ينضب، لكن التعليم لا ينفد. كل سنة إضافية من التعليم الجيد ترفع دخل الفرد بنسبة تقارب 10 بالمئة وفق البنك الدولي. فنلندا رفعت من شأن المعلم، فانطلق اقتصادها، وسنغافورة استثمرت في التعليم التقني والمهني، فصارت لاعباً عالمياً، وكوريا الجنوبية جعلت من مدارسها مصانع للثروة الوطنية. في المقابل، الكويت رغم تخصيص أكثر من 5 بالمئة من ناتجها المحلي للتعليم لم تحقق قفزات نوعية، وما زالت نتائجها في الاختبارات الدولية دون المستويين الخليجي والعالمي.

الأمن لا يقوم على السلاح وحده، بل على العقول التي تصنع السلاح وتبتكر استراتيجيات الدفاع وتحمي المجتمع من التطرف والانقسام. اليابان ما بعد الحرب بنت قوتها على الجامعات لا على الدبابات، وكوريا الجنوبية جعلت مختبراتها مصانع للأمن الوطني. والكويت بحاجة اليوم إلى الرؤية نفسها: الاستثمار في التعليم هو الاستثمار في أمنها الوطني واستقرارها الداخلي، خصوصاً في ظل التحولات الديموغرافية والتكنولوجية السريعة.في زمن الجوائح والأزمات الاقتصادية والمناخية يثبت البحث العلمي أنه الوقود الحقيقي للحضارة وصمام أمانها. خلال جائحة «كوفيد- 19» لم تُنقذ العالم حدود ولا تحالفات، بل أنقذته المختبرات التي طوّرت اللقاحات. الكويت تنفق بسخاء على التعليم، لكنها لم تُحوِّل هذا الإنفاق إلى بنية بحثية إنتاجية، جامعاتها ما زالت في معظمها جامعات تدريس لا جامعات بحث.

من هنا تصبح الحاجة ملحّة لخطّة استراتيجية تعيد صياغة النظام التعليمي برمّته وتنتقل به من النمط التقليدي التلقيني إلى نمط متطور مستدام، مستوحى من التجارب القريبة والقابلة للتطبيق.

أولاً: إعادة تعريف فلسفة التعليم وأهدافه

يجب أن يُنظر إلى التعليم باعتباره قضية أمن وطني ورافعة اقتصادية، لا مجرد خدمة اجتماعية. فلسفة التعليم ينبغي أن تُحدَّث لتنتج طالباً قادراً على التفكير النقدي وحلّ المشكلات والابتكار، كما فعلت سنغافورة عندما ربطت كل مرحلة دراسية بمهارات المستقبل والاقتصاد الرقمي.

ثانياً: تحديث المحتوى والمناهج وفق معايير عالمية

ينبغي مراجعة المناهج بالكامل وتحويلها إلى مناهج تفاعلية قائمة على المشاريع والتقنيات الحديثة، لا على الحفظ والتلقين. الإمارات وقطر أدخلتا برامج STEM والذكاء الاصطناعي والتعلم القائم على المهارات في المراحل المبكرة، بينما بقيت الكويت متأخرة في ذلك.

ثالثاً: إصلاح جذري في إعداد المعلم ومكانته

المعلم هو حجر الزاوية. يجب إعادة تأهيله وفق معايير دولية صارمة، كما في فنلندا، وتحسين أسلوب اختياره وشروط قبوله، ورفع مكانته المادية والمعنوية ليكون شريكاً في صياغة المستقبل. الكويت اليوم بحاجة إلى برنامج وطني لإعداد المعلمين يخرجها من نمط التوظيف العشوائي إلى صناعة نخبة تعليمية تقود الإصلاح.

رابعاً: ربط التعليم بسوق العمل والاقتصاد الوطني

لا يكفي الإنفاق بسخاء، المطلوب أن يتحول الإنفاق إلى مخرجات ملموسة. يجب إنشاء مجالس قطاعية مشتركة بين الوزارات والقطاع الخاص تحدد المهارات المطلوبة وتربط الجامعات والمدارس بها. قطر والإمارات أطلقتا شراكات واسعة مع القطاع الخاص والتقنية، بينما بقيت الكويت تعتمد على الدولة وحدها، فتكدّست الشهادات بلا قيمة إنتاجية.

خامساً: إطلاق ثورة رقمية شاملة في التعليم

التعليم الرقمي ليس أجهزة ذكية في الفصول فقط، بل منظومة متكاملة للمحتوى والتقييم والمتابعة وتطوير المهارات. ينبغي إدخال الذكاء الاصطناعي في تصميم المناهج، وتخصيص الموارد للمنصات الوطنية للتعلم المستمر، وتحويل الجامعات والمدارس إلى مراكز ابتكار، كما فعلت الإمارات بجامعاتها المتخصصة في الذكاء الاصطناعي والطاقة المتجددة.

سادساً: تحويل الإنفاق إلى استثمار تنموي

يجب تمويل التعليم وفق العائد التنموي لا الأرقام الجافة، وربطه بمؤشرات أداء واضحة: تحسّن نتائج الطلبة في الاختبارات الدولية، زيادة نسبة الخريجين القادرين على التوظيف في القطاع الخاص، ارتفاع إنتاجية المعلم، وزيادة عدد الأبحاث التطبيقية ذات الأثر الاقتصادي.

هذه الخطوات ليست تنظيراً، بل دروس عملية من تجارب نجحت في دول صغيرة ومحدودة الموارد، مثل فنلندا وسنغافورة، ومن دول خليجية قريبة مثل الإمارات وقطر التي سبقت الكويت في إدخال إصلاحات جذرية وربط التعليم برؤاها الوطنية.

في الختام، التعليم في الكويت لم يعُد يحتاج إلى ترقيع أو مبادرات تجميلية، بل إلى إعادة بناء فلسفته ومناهجه ومعلميه، وإدارته بالكامل ضمن رؤية وطنية واحدة. إنه الماء الذي يروي جذور التنمية والهواء الذي تتنفس به الحضارة. من أهمل التعليم أضاع نفسه، ومن جعله شريان حياة لأمته كتب لها الرفعة والاستقرار.

* وزير الصحة الأسبق

back to top