مدونة الزائر لبلاد الجزائر
الزائر لبلاد الجزائر، وهذا بلد ينبغي ألا يفوّته المهتم بالرحلات والاكتشاف، ولا أن يتجاوزه المطّلع على التاريخ والحضارات، فالسفر إليه ركن مهم لإثراء المعرفة واستيعاب الأطوار الزمنية والتداخلات الثقافية في مغربنا العربي الكبير بحيّزه الأكبر المتمثل في بلاد الجزائر، والتي كانت تسمى بالمغرب الأوسط تمييزاً لها عن المغربين -الأدنى ممثلاً بليبيا وتونس والأقصى بالمملكة المغربية - قبل أن تتشكل الأقطار الوطنية وتتكرس بينها الحدود والفواصل.
ومن المعلوم أن شيخ علم الاجتماع ابن خلدون قد خصّ البلاد الجزائرية لتكون مستقرة، بعد أن اعتزل السياسة، ليتفرغ في تدوين مقدمته الشهيرة التي أسست علم الاجتماع، حيث استحدث أطروحته المفسرة لتحور التجمعات البشرية، وتحوّل أجيالها المتدرج من بساطة البداوة إلى تعقيدات الحضارة، وكانت شعوب تلك المنطقة من بدوها وحضرها وعربها وبربرها، هي العيّنة التي جمع منها مشاهداته وملاحظاته ليبني عليها نظرياته، ولو لم يكن للجزائر غير هذا المزية لاستحقت عناء السفر ومتعة الاكتشاف، حيث بقية المجتمعات التي استند عليها ابن خلدون في فلسفته.
وكانت وهران عاصمة الغرب الجزائري أولى المحطات، ونغمات فن الراي لا تكاد تخفت بين أزقتها، وأطلال المحتل الإسباني تشرف على واديها وأرباض مدينتها العتيقة الغنية بالعمران الأثري الذي طواه الإهمال ويكاد يُمحى إن لم تسعفه أيدي الاهتمام.
ومنها إلى تلمسان، وما أدراك ما تلمسان، وضاحيتها المنصورة تطل عليها بصومعتها الشاهقة، كأنها تحرس تلمسان من تلوث الحداثة وأصنام العولمة، لتبقى ساعة الزمن مثبتة على مدينة من العصور الوسيطة، شاهدة على صراع امبراطوري بين العثمانيين والإسبان، وعلى جرائم المستعمر الفرنسي في محو الهوية الإسلامية، ومع ذلك يبقى قصر المشوّر بتلمسان أجمل قصر موجود في عصرنا هذا على الطراز الأندلسي، وجهود السلطات في رعايته والمحافظة عليه محل تقدير وشكر.
ثم صرنا في قسنطينة عاصمة الشرق الجزائري ومدينة الجسور، وتوأم روندا الأندلسية بجغرافيتها، وبنت الأناضول التركي بعمرانها ومطبخها، وأخت تونس بلسانها، وسليلة حاتم بكرم أهلها، وفيها يطيب المقام وتكتحل الأنظار بمشاهد الورد والأنهار.
ثم عرجنا إلى عنابة وبحرها الرقراق والناس على شطّه بين متنزه وسبّاح، ونخيلها يشق السماء طولاً ويملأ الأرض ظلاً، فيزيد الأفق جمالاً والهواء نقاءً، وبذلك غطت الرحلة أهم مدن شرق الجزائر وغربها دون أن نمرّ العاصمة.
وعليه، ومن منظور تاريخي نقول إن للجزائر ثلاث طبقات حضارية - واضحة للعيان -، أحدثها هي الوطنية الجزائرية المتشكلة بعد الاستقلال - كبقية الأقطار العربية -، وتسبقها طبقة الاستعمار الفرنسي بجرائمه ودمويته وطرازه المعماري، والطبقة الأقدم عثمانية في جهة الشرق كقسنطينة ونواحيها، وإسبانية في الغرب تتركز في وهران وما حولها.