تقرير اقتصادي: سوق توصيل الطلبات... ممارسات احتكارية رغم تعدد المنافسين!
• شراء المنصات المماثلة وتقييد الشركات الوسيطة وفرض عمولات عالية سلوكيات تعزز الاحتكار
• التأثير السلبي على عدالة المنافسة يمسّ المستهلكين والمبادرين ومزودي الخدمة الآخرين
• الاحتكار بوابة لانحرافات اقتصادية فهو محفّز للتضخم وتراجع الجودة... ويضيّع فرص الاستثمار والعمل
شهد سوق توصيل الطلبات في البلاد دخول شركة جديدة هي منصة «Keeta» الصينية لتنضم إلى قائمة من مقدمي خدمات التوصيل، وأبرزها «طلبات» التي أدرجت أسهمها قبل عام في سوق دبي المالي، إلى جانب شركات مثل «ديليفيرو» و«جاهز» و«كاري»، وغيرها من المنصات التي توسعت بشكل كبير خلال العقد الماضي، بالتزامن مع نمو ثقافة التجارة الإلكترونية بين المستهلكين خلال جائحة «كورونا» وبعدها، علاوة على دخول صغار السن كقوة شرائية خصوصاً مع سهولة تدفق الأموال عبر التحويلات البنكية.
ما يهم اقتصادياً ليس فقط مدى قدرة الشركة الجديدة على الربح أو النجاح في السوق الكويتي، فهذه مسألة ثانوية تخصّ ملاكها بالدرجة الأولى، فمن الممارسات الضارة بالمنافسة التي تؤثر سلباً على المستهلكين والمبادرين، بل حتى المنافسين في وقت تراجعت قيمة جهاز حماية المنافسة، الذي نسف قانونه بتعديلات تشريعية وأحكام دستورية دون تحرك من مجلس الوزراء لإعادة «الروح» إلى الجهاز - الذي لم يكن أداؤه بالأصل محترفاً- كي يمارس دوره المفترض في محاربة الاحتكار.على مجلس الوزراء تحمل مسؤولياته التشريعية الحالية بضرورة إصدار قانون جديد لحماية المنافسة ومنع الاحتكار وممارساته
قانون المنافسة
فالتعديلات التي أقرّها القانون رقم 72 لسنة 2020 بشأن حماية المنافسة استبدلت النص الحاسم في القانون السابق الذي يجرم عمليات تجريم الاحتكار، إذ غيّرت تعريف السيطرة المجرمة قانوناً من كونها «وضع يتمكن من خلاله شخص أو مجموعة أشخاص تعمل معاً، بشكل مباشر أو غير مباشر، من التحكم في سوق المنتجات، بالاستحواذ على نسبة تجاوز 35 بالمئة من حجم السوق المعنية»... إلى نص جديد مائع أو على الأقل غير حاسم عرّف السيطرة بأنها «العلاقة القانونية أو التعاقدية التي تؤدي بشكل منفصل أو مجتمع إلى التأثير الحاسم» أي أنها أسقطت النسبة المحددة وجعلتها تقديرية للجهة التنفيذية بكل ما يمكن أن تتعرض له من ضغوطات أو حتى مصالح، ناهيك عن أن حكم المحكمة الدستورية في شهر فبراير الماضي بشأن عدم دستورية البند 1 من المادة 34 من قانون حماية المنافسة المتعلقة بفرض «الجزاء المالي على الشخص المخالف بنسبة لا تتجاوز%10 من إجمالي الإيرادات التي حققها خلال السنة المالية السابقة» شكّل عبئاً إضافياً على مجلس الوزراء في تحمّل مسؤولياته التشريعية الحالية بضرورة إصدار قانون جديد لحماية المنافسة ومنع الاحتكار وممارساته.
الممارسات الاحتكارية
ولعل في سوق توصيل الطلبات العديد من الممارسات الاحتكارية الضارة بالمنافسة التي تؤثر سلباً على المستهلكين والمبادرين، بل وحتى مزدوي الخدمة الأصغر، الذين لا يتمكنون من المنافسة أو مواصلة تقديم الخدمة، فالاحتكار اليوم لا يرتبط فقط بوجود جهة واحدة أو جهات قليلة تقدم أي خدمة إنما في ممارسات معظمها غير ظاهر، لكنها تؤثر سلباً على عدالة المنافسة، وتمسّ سلباً المستهلكين والمبادرين ومزدوي الخدمة الآخرين.
وأول هذه الممارسات الضارة هي إمكانية استحواذ الشركات الأكبر حجماً على منافستها الأصغر، مما يعزز الحصة السوقية بشكل يجعلها شبه محتكرة للسوق أو أن تحتكر منصة واحدة عقود خدمات شركات التوصيل الوسيطة وهو ما يفضي إلى استغلال الحصة السوقية غير المقيدة قانوناً في فرض عمولات عالية على منافذ البيع تصل إلى 30 في المئة من قيمة أي فاتورة، وهنا يقع الضرر على المبادرين وأصحاب المشاريع الصغيرة أكثر من الشركات الكبرى، ناهيك عن عدم التزام الشركات أصلاً بالأسعار المحددة من وزارة التجارة بشأن توصيل الطلبات داخل أو خارج المناطق.الاحتكار اليوم لا يرتبط فقط بوجود جهة واحدة أو جهات قليلة تقدم أي خدمة إنما في ممارسات لها تأثيرات سلبية جداً اقتصادياً وتجارياً
بل ان بعض المنصات تعلن عن منتجات وسلع «حصرية» من خلال تطبيقاتها وهو إعلان احتكاري يمر دون أي إجراء من جهات الدولة الرقابية!
الأسواق المتقدمة
وفي الحقيقة، فإن محاربة الاحتكار وممارساته الضارة بالمنافسة وغير العادلة بالمستهلكين باتت اليوم جزءاً في سلوكيات الأسواق المتقدمة، فليس أدلّ من العديد من الغرامات والعقوبات التي فرضتها اقتصادات كبرى على شركات ضخمة وآخرها، على سبيل المثال لا الحصر، فرض الاتحاد الأوروبي غرامة بـ 3.45 مليارات دولار الأسبوع الماضي على شركة «غوغل» بسبب ممارسات مناهضة للمنافسة في مجال التكنولوجيا الإعلانية المربحة، وقبلها الغرامة على شركة أبل بـ 580 مليون دولار لأنها تجبر مطوري البرامج على استخدام تطبيقاتها أو النقاش في البيت الأبيض حول أثر استحواذ «نيبون ستيل» اليابانية على شركة «يو إس ستيل» الأميركية على المنافسة والأمن القومي في الولايات المتحدة، بل ان واحدة من تطبيقات التوصيل العاملة في البلاد «طلبات» أفصحت في سوق عن إغلاق إداري مؤقت فُرض عليها الأسبوع الماضي من وزارة التجارة والصناعة القطرية.
كذلك تواجه شركات عالمية ضخمة مثل «أمازون» و«ميتا» قضايا من وزارة العدل الأميركية بسبب محاولاتها الهيمنة على السوق، إذ تقوم بشراء الشركات الأصغر حجماً منها في نفس نشاطها لضمان احتكارها أو سيطرتها على السوق.سوق التوصيل يسجل ممارسات نمو لافتة خلال السنوات الأخيرة ويرتبط مباشرة بمصروفات الأسر وبيئة الأعمال والمنافسين من داخل البلاد أو خارجها
بوابة الانحرافات
لا شك أن الاحتكار هو بوابة لانحرافات اقتصادية متعددة لا ترغب بها أي دولة أو مجتمع، فهو محفز للتضخم والغلاء وبيئة متاحة لتراجع جودة أي خدمة أو سلعة وينطوي على إضاعة فرص استثمارية وأخرى للعمالة الوطنية والمشروعات الصغيرة والمتوسطة، لذلك من واجب الدولة وأجهزتها التنفيذية أن تؤدي دوراً ملموساً في مواجهة الممارسات الضارة في سوق يسجل ممارسات نمو لافتة خلال السنوات الأخيرة ويرتبط مباشرة بعدد من الأطراف كمصروفات الأسر في الكويت، وبيئة الأعمال للمبادرين والمنافسين من داخل البلاد أو خارجها... وهو أمر إن كان مرتبطاً بسوق التوصيل فإنه يمتد إلى كل المظاهر الاحتكارية التي تمس أوجه النشاط التجاري والاقتصادي.