القطبية العالمية... وتغيير ميزان القوى

نشر في 17-09-2025
آخر تحديث 16-09-2025 | 19:01
 د. محمد المقاطع

القوة العظمى، القطب الأوحد، أقوى دولة، دولة التفوق التكنولوجي... مصطلحات تطلقها أميركا على نفسها، وتصفها بها الدول والناس، وهو وصف يتسم بالنرجسية والتعالي.

ولعل صعود أميركا السريع جعلها تكتسب تلك الأوصاف منذ الحرب العالمية الأولى وحتى اليوم، وهي فترة امتدت إلى ما يزيد على القرن بقليل.

وتمثّل ما يقترب من نصف عمر أميركا التي أُنشئت عام 1778، وهو يعني أن مرحلة البداية والتكوين المتكامل والشباب استغرقت نحو 135 سنة، ثم مرحلة النضج والقوة والهيمنة استغرقت نحو 112 سنة.

وبالنظر إلى حالة تقارب مرحلتي النشأة والصبا والشباب، والنضج والقوة والهيمنة، نستنبط حقيقة استقرائية بوقائع تاريخية ثابتة، أن معظم الامبراطوريات والدول العظمى، حينما تبلغ مرحلة التعادل الزمنية، بين المرحلتين المذكورتين آنفاً، ستبدأ بعدها مرحلة التراجع والضعف وربما الأفول، وتلك سُنّة كونية وحقيقة استقرائية بوقائع تاريخية ثابتة.

وأظن أن أميركا وصلت إلى هذه المرحلة التي اتسمت في سنيها الأخيرة بحالة التفرّد والطغيان، وهو ما رأيناه في العشرين عاماً الماضية، ووصلت قمّتها في عهد الرئيس ترامب بالبيت الأبيض في «رئاستيه» الأولى والحالية.

وضمن العديد من المعطيات والملابسات التي يذكرها محللون، منهم أميركيون، يمكن تعدادها وسردها تدليلاً على ذلك، تتمثل في سلوك اليمين الحاكم، فالتيار اليميني يتّسم بالتطرف والشراسة في ممارسة سلطات الحكم والتسلط والقوة والتفرّد، وتُرى شواهده تلك يومياً في تفكيك العلاقات مع الحلفاء وتوتير العلاقات مع الأصدقاء والحدّية مع القرناء، والابتزاز والهيمنة على الضعفاء.

بل وفي تغيير قواعد وأساسيات لعبة الديموقراطية في شؤون الحكم الداخلية، فقد تم التفريط في التوازن بين الدولة الاتحادية والولايات، كما تم الضغط على القضاء واستقلاليته وحياده، وتم تغيير قواعد النظام الانتخابي وتوزيع الكتل التصويتية وأوزانها لضمان استمرار اليمين، وهو ما سيُفضي واقعياً نحو هيمنة حزب واحد، فضلاً عن الضغوط على المؤسسات العلمية، إلى جوار التفريط بالرأي العام وقوته التغييرية، ومن ذلك حركة ماجا.

والنتيجة المنطقية لهذا السلوك الخارجي والداخلي أن تبدأ حالة التراجع وربما الأفول، التي تستغرق عشرين عاماً، وربما أقل من ذلك، ولا أستبعد أن تصبح أميركا بوضع يماثل ألمانيا، بل وبريطانيا، وربما فرنسا أو إيطاليا خلال هذه المرحلة وبعد انتهائها.

وعلى الرغم مما يعتقده الكثيرون أن أميركا في أوج قوتها وعنفوانها وشبابها، فإن تلك ليست هي القراءة التحليلية الواقعية في رأي بعض المحليين، بل ربما يعكس حالة الانبهار بأميركا، لكنّه مرحلة تسبق مرحلة التراجع وربما شيخوخة الدولة حينما تصل إلى نقطة التعادل في عمرها.

فهل بلغتها أميركا؟ وهو الذي سيجعل شيخوختها جليّة الظهور وسريعة الإدراك، رغم المتبقي من مرحلة النضج والعنفوان.

ولذلك نجد أن دولاً كبيرة أدركت ذلك، وبدأت تعدّ نفسها للمرحلة التالية، وهي روسيا والصين والهند وكوريا وتركيا.

وأدركته أيضاً الدول الحليفة تقليدياً لأميركا، مثل بريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا وإسبانيا وكندا، وتسير معها الدول الأوروبية الأخرى الحليفة الاعتيادية.

ونجد دولاً أخرى ذات استقلالية خاصة تتهيأ لهذه المرحلة، وهي اليابان وكوريا الجنوبية وماليزيا وإندونيسيا وباكستان، بما في ذلك الكيان الصهيوني، الذي بدأ يتهيأ للاعتماد على الذات للمرحلة القادمة.

وربما يلتحق بهم غيرهم.

وتبقى دول أخرى لم تدرك الحقائق ولم تحسن قراءة الوقائع واستقراء التاريخ، وتعيش حالة التيه والتشتت والتأخر في القرار، فوضعت كل آمالها بتحالفات قائمة، وسيكون وضعها محزناً ومؤلماً ما لم تتدارك الأمر وترسم خيارات مسارها المستقبلي كالآخرين.

back to top