نفق النيوليبرالية

نشر في 17-09-2025
آخر تحديث 16-09-2025 | 18:41
 حبيب السنافي

لن تستقر الأقطار العربية سياسياً واقتصادياً وأمنياً ما لم تعِ جوهر مصائبها، وتحديد مكامن الخطر المحدق بها، وما لم تُدرك معالم وآثار التحدي الكاسر الذي يتربَّص بنا، بطبيعته المتوحشة وحنينه لـ «معتقد العبودية» بصورةٍ تبدو أشد قساوةً وأمضى سلاحاً من سابقتها، صورة استرقاق شعوب بأكملها تحت مبرر اعتناق الديموقراطية، وتمكين الاستقرار الإقليمي العالمي، مع إذعان شعوب المنطقة لسياسات النيوليبرالية الاقتصادية والسياسية والاجتماعية أو التهديد بتطبيق «العقوبات الدولية»، وتطبيق «الحصار الاقتصادي»، وحتى شن الحروب، إن لزم الأمر. النيوليبرالية (كلمة السر) بكُل ما يجري من حروب وكوارث ومآسٍ في إقليمنا المُلتهب، وهي المحرِّك الأول لتسيير الجيوش، وحشد الأساطيل، والمموّن المالي بخزائنه المشرعة لشتى أسلحة القتل والدمار، وهي التي تحدِّد مناطق ودول العبودية بالتبعية الاقتصادية والولاء السياسي، وخاصة تلك التي تحتوي على موارد طبيعية تحرِّك الاقتصاد العالمي، كمناطق البترول والغاز ونحوها.

طبيعة الاقتصاد النيوليبرالي من خلال الدول التي تمثل نواته (دول أوروبا الغربية، والولايات المتحدة الأميركية)، التي تقتات على تبعية النظام الاقتصادي العالمي لها، والذي تتحدَّد معالم تمدُّده بنتائج الصراعات العالمية عسكرياً واقتصادياً، عبر تفجير الحروب، وتدبير أسباب الأزمات الاقتصادية، للوقوع فريسة لفخ الديون السيادية، مع إحياء الصراعات الدينية والتاريخية، وتحريك النزاعات المحلية والإقليمية، ليزرع من خلال مراحلها «الأسواق الحُرة»، التي تُسيطر على دواليبها الشركات الدولية العملاقة، عبر استحواذها واحتكارها كل الموارد الطبيعية والمشاريع الرأسمالية، من خلال عمليات «الخصخصة»، وانعدام المنافسة، وبالاستحواذ «اللاأخلاقي» على بقية الاقتصادات الهشة، بلا مراعاة للكُلفة الاجتماعية الفادحة على هذه الشعوب النامية.

السياسات الاقتصادية النيوليبرالية تكيد العداوة لمفهوم الرعاية الاجتماعية، بحيث تعتبر الصرف المالي على التعليم المجاني والصحة العامة تبذيراً واستهلاكاً ريعياً من قِبل شرائح اجتماعية كسولة لا ترغب بالعمل والكدح. لذا تقترح النيوليبرالية بشكلٍ شبه دائم سياسات التقشف والتقتير على برامج الخدمات العامة المقدَّمة والبنى التحتية والرأسمالية، وفي المقابل تدعو للمزيد من عمليات الخصخصة، وتخفيض الضرائب على الشركات، مقابل التوسع في فرض الرسوم، وتحمُّل التكلفة على الطبقات الشعبية.

النيوليبرالية ليست برنامجاً اقتصادياً فحسب، هي تحتضن أيديولوجيا ثقافية تقسِّم شعوب العالم إلى شعوب متحضرة، وأخرى بربرية، أسياد وعبيد، يفضل فيها العرق الأبيض «الإنجليكاني» مقابل الأعراق الأخرى، ورؤيتهم لنا تنسجم مع الرؤية التاريخية للفيلسوف أرسطو عن العبيد عندما قال: «هناك أناس عبيد بطبيعتهم، وُلدوا ليكونوا خدماً». وفي العصر الحديث عبَّر الفيلسوف جون لوك عن نزعته وفلسفته الليبرالية، بقوله: «مَنْ أُسروا في حروب عادلة، فقد خسروا حياتهم وحُريتهم، وأصبحوا عبيداً وفقاً لقانون الطبيعة».

سابقاً، كان السادة الليبراليون يُتاجرون بالرقيق أنفسهم. أما الحاضر، فقد اعتقوهم، ليشغلوا منهم «الأسواق الناشئة»، كما يُطلقون عليها. وبالحقيقة، لم تتحوَّل هذه الأسواق إلا إلى «أسواق نخاسة»، وبدلاً من أن يُباع ويُشترى فيها فرد أو قطيع من البشر، غدت القوى النيوليبرالية العُظمى تبيع لبعضها البعض شعوباً برُمَّتِها، بأرضها، وأسواقها، ومواردها الطبيعية، والمساومة فيما بينها على تبادل المصالح التجارية، والاستثمار باقتصاديات الدول المنهوبة، مع كبت حُريات شعوبها. هذه هي خُلاصة النيوليبرالية التي يدعو إلى اعتناقها المتفذلكون من العرب.

back to top