«ربي يرجعهم بالسلامة» *

نشر في 15-09-2025
آخر تحديث 14-09-2025 | 19:49
 خولة مطر

اسمعي اسمعي سأشاركك في رسالتها الصوتية، هكذا قالت لي وصوتها المرتجف برهبة اللحظة يصف المشهد وهي عائده للتو من يوم حافل بالمشاعر الإنسانية في سيدي بوسعيد عروس المدن التونسية. قالت: «لن تتخيلوا كم البشر الموجودين في الميناء، لا مكان لحجر بين حجر، بل الأجساد تراصت على مدى البصر»، هكذا جاء صوتها المعتق بالفرح النادر.

قبل رحيلها وفي استعداداتها لهذه الرحلة الإنسانية كانت تشاركنا في تفاصيل حقيبتها، وماذا تستطيع أن تحمل، وكيف أن عليها ألا تأخذ الكثير، لا مكان للرفاهية الخاصة إلا ما لا يمكن الاستغناء عنه، والباقي كله أكل ودواء لأطفال ونساء ورجال غزة الصامدين المحاصرين.

رسالتها كانت مليئة بتفاصيل عن المراكب في ذاك الميناء، والبشر كل البشر بألوان وأديان وأجناس مختلفة، وعن قصص ومدن قدموا منها، وعن وداعات كانت لهم في موانئ كثيرة، وعن موج وبحر غضب أحياناً ليس منهم، ولكن ربما مما تسجله موجاته كل لحظة من موت وقتل ورمال طرزت بالدم والوجع هناك عند شواطئ غزة.

واستمرت كأنها تتحدث في نفس واحد دون همزة أو فاصله...، «الأجواء لا مثيل لها» تردد، لا أعرف كيف أصف لكم ما يحدث، فأصوات الهتافات وأناشيد وغناء ومؤتمرات صحافية لمَن حضر من الإعلام، في حين لم يرصد كثير من المحطات العربية والأجنبية المشهد التاريخي، ولم تكترث له، بل استمرت في نشرات وضع البورصة والبتكوين وحفلات هنا وهناك وغيرها!

هل تخيل سيدي بوسعيد الباجي (القرن 12م) أن تلك المدينة، التي سكنها وأسسها، ستكون يوماً هي أيضاً حاضنة والحصن الأخير للبشرية في طقس جماعي اجتماعي وثقافي وإنساني نادرين، ومشهد الأنظار وهي معلقة في الأفق الأزرق لتلك الأمواج التي سكنت خشوعاً في انتظار استقبالهم وهم يغادرون نحو غزة.

ترحل القوارب عند ساعة الرحيل ويتحلق الجميع عند الرصيف، فالكثيرون جاؤوا من مدن بعيدة أيضاً للحظة الوداع صارخين: «ربي يرجعكم بالسلامة»، ويضيف أحدهم هامساً: «منصورين بعد أن تكسروا الحصار على غزة».

تأتي الرسائل تباعاً كلهم وقفوا أمام هواتفهم لا ليصوروا مشهداً طبيعياً، أو موقعاً جميلاً، أو فندقاً، أو مطعماً، بل ليخبروا العالم أنهم هنا عند حافة الموجة يستعدون للرحيل محمّلين بما استطاعوا حمله لأن فلسطين وشعبها يبادون أمام أنظار العالم، ولأنهم رضعوا حب فلسطين والحرية والحق معاً. ليست بطولة، يقول ذاك القادم من عمان، وتردد البحرينية أنها رضعت حب فلسطين وأرضها وشعبها، وتقف الشابة القطرية لتقول: «نحن هنا من أجل الحق والعدالة ودفاعاً عنهما».

صور وأصوات كلها من موريتانيا مروراً بالمغرب والجزائر وليبيا والكويت وتونس التي لم يكتفِ أهلها بأن يحتضنوا القادمين، بل وقفوا معهم وفتحوا قلوبهم قبل بيوتهم، تقاسموا الرغيف المغمس في الهريسة مع حبة زيتون، وكانوا هناك بأعداد هائلة في وداعهم. قالت إحداهن: «سنكون هنا، فلا تتأخروا، وعودوا سالمين غانمين».

كلهم، الواقفون هناك المودعون حمّلوهم رسائل لمحمد وهند وشيماء ولمى وكوثر وخالد وأشرف ووائل ووو لكل أطفال وأهل غزة: «قولوا لهم إن العالم لم ينسهم»، وليغفروا لنا، هكذا قالت تلك الماسحة دمعها، وهي تنثر الملح والياسمين على المغادرين.

ومع ابتعاد الفلوتيلا في عرض البحر، تتبدد الأصوات شيئاً فشيئاً، ليحل محلها همس الرياح وأصداء أقدام المغادرين على الأرصفة. تتجه الأنظار نحو الأفق، حيث تذوب القوارب في زرقة الماء، وتتحول إلى نقاط بعيدة، كأنها أحلام معلقة بين السماء والبحر. قد تسكن سيدي بوسعيد بعض الشيء لبعض الوقت، ولكن تبقى أنظار أحرار العالم على الفلوتيلا، داعية: «ربي يحميهم» من الأقرباء قبل الأعداء ربما!

* ينشر بالتزامن مع «الشروق» المصرية

back to top